وقال بعضهم : الكلّ ممكن ، والأدلّة النقلية ضعيفة ومتعارضة ، فوجب التوقّف وترك القطع ، والله أعلم.
فصل في إعراب الآية
قوله : (وَكُلا مِنْها رَغَداً) هذه الجملة عطف على «اسكن» ، فهي في محلّ نصب بالقول ، وأصل «كل» : «اؤكل» بهمزتين : الأولى همزة وصل ، والثانية فاء الكلمة ، فلو جاءت هذه الكلمة على الأصل لقيل : أوكل بإبدال الثانية حرفا مجانسا لحركة ما قبلها ، إلّا أن العرب حذفت فاءه في الأمر تخفيفا ، فاستغنت حينئذ عن همزة الوصل ، فوزنه «عل» ومثله : «خذ» و «مر» ، ولا يقاس على هذه الأفعال غيرها ، فلا تقول : من «أجر ـ جر» ولا تردّ العرب هذه الفاء في العطف ، بل تقول : «قم وخذ وكل» إلّا «مر» ، فإن الكثير ردّ فاءه بعد الواو والفاء ، قال تعالى : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ) [طه : ١٣٢] ، وعدم الرد قليل.
وحكى سيبويه «اؤكل» على الأصل ، وهو شاذّ.
وقال «ابن عطية» (١) : حذفت النون من «كلا» للأمر.
وهذه العبارة موهمة لمذهب الكوفيين من أنّ لأمر عندهم معرب على التدريج ، وهو عند البصريين محمول على المجزوم ، فإن سكن المجزوم سكن الأمر منه ، وإن حذف منه حرف حذف من الأمر.
و «منها» متعلّق به ، و «من» للتبعيض ، ولا بدّ من حذف مضاف أي : من ثمارها ويجوز أن تكون «من» لابتداء الغاية ، وهو حسن.
فإن قيل : ما الحكمة في عطفه هنا «وكلا» بالواو ، وفي «الأعراف» بالفاء؟
والجواب : كلّ فعل عطف عليه شيء ، وكان الفعل بمنزلة الشّرط ، وذلك الشّيء بمنزلة الجزاء ، عطف الثّاني على الأوّل بالفاء دون الواو ، كقوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها) [البقرة : ٥٨] فعطف «كلوا» على «ادخلوا» بالفاء لما كان وجود الأكل منها متعلقا بدخولها فكأنه قال : إن دخلتموها أكلتم منها ، فالدّخول موصل إلى الأكل ، والأكل متعلّق وجوده بوجوده يبين ذلك قوله في سورة «الأعراف» : (وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا) [الأعراف : ١٦١] فعطف «كلوا» على قوله : «اسكنوا» بالواو دون الفاء ؛ لأن «اسكنوا» من السّكنى ، وهو المقام مع طول اللّبث والأكل لا يختص وجوده بوجوده ؛ لأن من دخل بستانا قد يأكل منه ، وإن كان مجتازا ، فلما لم يتعلّق الثاني بالأول تعلّق الجزاء بالشرط وجب العطف بالواو دون الفاء. إذا ثبت هذا
__________________
(١) ينظر المحرر الوجيز : ١ / ١٢٦.