فصل في المراد بالنهي عن الأكل من الشجرة
هذا النهي (١) نهي تحريم ، أو تنزيه؟ فيه خلاف.
__________________
(١) النهي خلاف الأمر : نهاه ينهاه نهيا : كفه ؛ فانتهى ، وتناهى : كفّ ، وهو واويّ يائي ، يقال في الواويّ : نهوته عن الشيء ، وفي اليائي : نهيته ، ونفس نهّاء : منتهية عن الشيء ، وتناهوا عن الأمر وعن المنكر : نهى بعضهم بعضا ، وفي التنزيل العزيز : «كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه».
والنّهية والنهاية آخر كل شيء ؛ وذلك لأن آخره ينهاه عن التمادي فيرتدع ، والنّهي والنّهي : الموضع الذي له حاجز ، كأنه ينهى الماء أن يفيض منه. ونهية الوتد : الفرضة التي في رأسه ، تنهى الحبل أن ينسلخ.
والنّهى : العقل ، يكون واحدا وجمعا ، واحده نهية ، سمي بذلك ؛ لأنه ينهى عن القبيح.
وناهيك بفلان : كافيك به ، ويؤخذ من ذلك ؛ أن جميع اشتقاقات كلمة «نهى» تفيد المنع والحظر.
وتعريف النهي في اصطلاح الفقهاء والأصوليين : يعتبر النهي قسما من أقسام الكلام ؛ حيث إن الكلام ينقسم إلى : أمر ، ونهي ، وخبر ، وإنشاء ، ووعد ، ووعيد ، وغيرها ، فالنهي أحد هذه الأقسام. واختلف العلماء بإزاء إثبات كلام النفس إلى طائفتين : طائفة أثبتت كلام النفس ، وهم الأشاعرة ومن لفّ لفّهم ، والطائفة الثانية نفت تحقّق الكلام النفسي ، وهم المعتزلة ومن وافقهم.
ونحا كل فريق طريقا خاصا إلى تحديد النهي بما يلائم وجهة نظره ، في إثبات كلام النفس أو نفيه ؛ فالأشاعرة المثبتون لكلام النفس عرّفوه تارة باعتبار حقيقته الكلامية ، وعرفوه تارة أخرى باللفظ الدّال على تلك الحقيقة.
مذهب الأشاعرة في تعريف النهي باعتبار حقيقته الكلامية :
الصّحيح في تعريفه على ما اختاره ابن الحاجب : أنه «اقتضاء كفّ عن فعل على جهة الاستعلاء.
وتعريفه عندهم باعتبار أنه لفظ دالّ على المعنى النفسي ، وهو المناسب لغرض الأصوليين ؛ لأن بحثهم إنما هو عن الأدلة اللفظية السمعية ، من حيث يوصل العلم بأحوالها العارضة لها من عموم ، وخصوص ، وإطلاق ، وتقييد ، ونحوه ، إلى القدرة على إثبات الأحكام الشرعية لأفعال المكلفين ، وإن كان مرجع الأدلة السمعية إلى الكلام النفسي.
وذهب القاضي أبو بكر ، وإمام الحرمين ، والإمام الغزالي : بأنه «القول المقتضي طاعة المنهي بترك المنهي عنه» وهذا ما اختاره الجمهور من الشافعية. قال الكمال ما محصله : «وهو المختار» معنى تعريف النهي اللفظي الذي هو غرض الأصولي أنه لطلب الكفّ عن الفعل ، صيغة تخصّه ، بمعنى : أنها لا تستعمل في غيره على سبيل الحقيقة ، وقد وقع في هذا خلاف ، والصّحيح أنّ له لفظا يخصّه ، وحاصل تعريف النهي اللفظي ذكر ما يميّز صيغته عن غيرها من الصيغ ، فسميت هذه المميزات حدّا.
ـ مذهب المعتزلة في تعريف النهي :
لسبب أن المعتزلة أنكرت الكلام النفسي ، لم يعرّفوا النهي باعتبار المعنى القائم بالنفس ، وأنه اقتضاء الكفّ أو طلب الكف ؛ لأن هذا نوع من الكلام النفسي ، فعرّفوه تارة باعتبار أنّه لفظ ، وعرفوه تارة أخرى باعتبار الإرادة المقترنة بالصيغة ، ومرة ثالثة عرّفوه باعتبار أنه نفي الإرادة.
وقد عرّفه جمهورهم باعتبار أنه لفظ ؛ قالوا : «هو قول القائل لمن دونه : لا تفعل أي : قول القائل لفظا موضوعا لطلب ترك الفعل من الفاعل.
واتفق العلماء على أن صيغة النهي «لا تفعل» ترد لعدّة معان منها :
١ ـ التحريم ؛ كقوله ـ تعالى ـ : «وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى» ، «لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً» ، «وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ»