أسباب الدنيا ، أو في أمور الآخرة ، فكأنه ـ سبحانه ـ وعدهم في الآخرة بالأجر ، ثم بين صفة ذلك الأجر أن يكون خاليا من الخوف والحزن ، وذلك يوجب أن يكون نعيمهم دائما ؛ لأنهم لو جوّزوا كونه منقطعا لاعتراهم الخوف العظيم.
فإن قيل : فما الحكمة في قوله تعالى هاهنا : (الصَّابِئِينَ ،) منصوبة ، وفي «المائدة»: (وَالصَّابِئُونَ) [المائدة : ٦٩] مرفوعة. وقال في الحج : (وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) [الحج : ١٧] فقدم «الصّابئين» على «النصارى» في آية ، وأخّر «الصّائبين» في الأخرى ، فهل في ذلك حكمة ظاهرة.
قال ابن الخطيب (١) : إن أدركنا تلك الحكم فقد فزنا بالكمال ، وإن عجزنا أحلنا القصور على أفهامنا لا على كلام الحكيم.
قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٦٤)
هذا هو الإنعام العاشر.
والميثاق إنما يكون بفعل الأمور التي توجب الانقياد والطاعة.
واختلفوا في ذلك الميثاق.
قال الأصمّ : [ما وعده الله القوم](٢) من الدّلائل الدّالة على صدق أنبيائه ورسله ، وهذا النوع من المواثيق أقوى المواثيق والعهود ؛ لأنها لا تحتمل الخلف والكذب والتبدل بوجه ألبتة. وقال أبو مسلم : هو ما روى عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم أن موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ لما رجع إلى قومه بالألواح ، قال لهم : «إن فيها كتاب الله تعالى» فقالوا : لن نأخذ بقولك حتى نرى الله جهرة فيقول : هذا كتابي فخذوه فأخذتهم الصّاعقة ، فماتوا ثمّ أحياهم ، ثم قال لهم بعد ذلك : خذوا كتاب الله ، فأبوا فرفع الطور وقيل لهم : خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم ، [فأخذوه](٣) فرفع الطور هو الميثاق (٤) ؛ لأنه آية [باهرة] عجيبة تبهر العقول ، وتردّ المكذب إلى التصديق ، والشّاكّ إلى اليقين ، وأكدوا ذلك ، وعرفوا أنه من قبله ـ تعالى ـ وأظهروا التوبة ، وأعطوا العهد والميثاق ألّا يعودوا إلى ما كان منهم ، وأن يقوموا بالتوراة ، فكان هذا عهدا موثقا. وروي عن عبد الله بن عباس : أن لله ميثاقين.
__________________
(١) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ٩٨.
(٢) في أ : هو ما وعد الله العقول.
(٣) سقط في ب.
(٤) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ١٥٦ ـ ١٥٧) عن ابن زيد.