وهذا الكلام حسن ، إلا أن كون «القسوة» جوز بناء التعجّب منها فيه نظر من حيث إنها من الأمور الخلقية أو من العيوب ، وكلاهما ممنوع منه بناء البابين.
وقرىء (١) : «قساوة».
فصل في أوجه شدة القسوة من الحجارة
إنما وصفها بأنها أشد قسوة من الحجارة لوجوه :
أحدها : أن الحجارة لو كانت عاقلة ، ورأت هذه الآية لقبلتها كما قال : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) [الحشر : ٢١].
وثانيها : أن الحجارة ليس فيها امتناع لما يحدث فيها من أمر الله فقال : وإن كانت قاسية ، بل منصرفة على مراد الله ـ تعالى ـ غير ممتنعة ، وهؤلاء مع ما وصفنا في اتّصال الآيات عندهم ، وتتابع نعم الله عليهم يمتنعون من الطاعة ، ولا تلين قلوبهم بمعرفة حق الله.
وثالثها : أن الأحجار ينتفع بها من بعض الوجوه ، أما قلوب هؤلاء فلا نفع منها ألبتة.
فصل في الرد على المعتزلة
قال القاضي : إن كان الدّوام على الكفر مخلوق فيهم ، فكيف يحسن ذمهم؟ فلو قال : إن الذي خلق الصّلابة في الحجارة هو الذي خلق في قلوبنا القسوة ، والخالق في الأحجار الأنهار هو القادر على أن ينقلنا عما نحن عليه من الكفر بخلق الإيمان فينا ، فإذا لم يفعل فعذرنا ظاهر لكانت حجّتهم على موسى أوكد من حجّته عليهم ، وهذا النمط قد تكرر مرارا.
قوله : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ).
واعلم أنه ـ سبحانه وتعالى ـ فضّل الحجارة على قلوبهم بأنه قد يحصل في الحجارة أنواع من المنافع ، ولا يوجد في قلوب هؤلاء شيء من المنافع.
فأولها : قوله : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ) واللّام في «لما» لام الابتداء دخلت على اسم «إن» لتقدم الخبر ، وهو «من الحجارة» ، وهي «ما» التي بمعنى «الذي» في محلّ النصب ، ولو لم يتقدم الخبر لم يجز دخول اللام على الاسم ؛ لئلّا يتوالى حرفا تأكيد ، وإن كان الأصل يقتضي ذلك ، والضمير في «منه» يعود على «ما» حملا على اللفظ.
قال أبو البقاء : ولو كان في غير القرآن لجاز «منها» على المعنى.
__________________
(١) وهي قراءة أبي حيوة.
انظر المحرر الوجيز : ١ / ١٦٧ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٢٩ ، والدر المصون : ١ / ٢٦٣.