وهذه الجملة يجوز أن تكون محذوفة من الجمل المذكورة قبلها ، وذلك أنه قد تقدم ذكر أربعة أشياء كلها محرمة وهي قوله : تقتلون أنفسكم وتخرجون [فريقا منكم من ديارهم](١) ، وتظاهرون ، وتفادون (٢) فيكون التقدير : تقتلون أنفسكم وهو محرّم عليكم قتلها وكذلك مع البواقي.
ويجوز أن يكون خصّ الإخراج بذكر التحريم ، وإن كانت كلها حراما ، لما فيه من معرّة الجلاء والنّفي الذي لا ينقطع شرّه إلا بالموت والقتل ، وإن كان أعظم منه إلّا أن فيه قطعا للشر ، فالإخراج من الدّيار أصعب الأربعة بهذا الاعتبار.
و «المحرم» : الممنوع ، فإن التّحريم هو المنع من كذا ، والحرام : الشّيء الممنوع منه ، يقال : حرام عليك وحرم عليك وسيأتي تحقيقه في «الأنبياء» إن شاء الله تعالى.
فصل في المراد بالكفر والإيمان في الآية
اختلف العلماء في قوله : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ) قال ابن عباس وقتادة وابن جريج : «إخراجهم كفر ، وفداؤهم إيمان ؛ لأنه ذمهم على المناقضة ، إذ أتوا ببعض الواجب وتركوا البعض» (٣).
فإن قيل : هب أن ذلك الإخراج كان معصية ، فلم سماها كفرا؟ مع أنه ثبت أن العاصي لا يكفر.
فالجواب : لعلّهم صرحوا بأن ذلك الإخراج غير واجب مع أنّ صريح التوراة كان دالّا على وجوبه.
الثاني : أن المراد تمسّكهم بنبوة موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ مع التكذيب بمحمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ مع أن الحجّة في أمرهما سواء.
قوله : «فما جزاء من يفعل» «ما» يجوز فيها وجهان :
أحدهما : أن تكون نافية ، و «جزاء» مبتدأ ، و «إلا خزي» خبره وهو استثناء مفرّغ وبطل عملها عند الحجازيين لانتقاض النفي ب «إلّا» ، وفي ذلك خلاف وتفصيل وتلخيصه : أن خبرها الواقع بعد «إلا» جمهور البصريين على وجوب رفعه مطلقا سواء كان هو الأول ، أو منزلا منزلته ، أو صفة ، أو لم يكن ، ويتأولون قوله : [الطويل]
٦٤٢ ـ وما الدّهر إلّا منجنونا بأهله |
|
وما صاحب الحاجات إلّا معذّبا (٤) |
__________________
(١) سقط في أ.
(٢) في أ : وتفدون.
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٣١٠) عن ابن عباس وقتادة وابن جريج.
(٤) البيت لأحد بني سعد ينظر شرح شواهد المغني : ص ٢١٩ ، وأوضح المسالك : ١ / ٢٧٦ ، وتخليص الشواهد : ص ٢٧١ ، وخزانة الأدب : ٤ / ١٣٠ ، ٩ / ٢٤٩ ، ٢٥٠ ، والجنى الداني : ص ٣٢٥ ، والدرر : ٢ / ٩٨ ، ٣ / ١٧١ ، وشرح التصريح : ١ / ١٩٧ ، وشرح المفصل : ٨ / ٧٥ ، والمقاصد النحوية : ـ