فصل
حمله بعضهم على نفي النّصرة في الآخرة ، والأكثرون حملوه على نفي النّصرة في الدنيا.
قال ابن الخطيب : والأول أولى ، لأنه ـ تعالى ـ جعله جزاء على صنعهم ولذلك قال : (فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ) وهذه الصّفة لا تليق إلا بالآخرة ؛ لأنّ عذاب الدنيا وإن حصل ، فيصير كالحدود ؛ لأن الكفّار قد يصيرون غالبين للمؤمنين في بعض الأوقات.
قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ)(٨٧)
روي عن ابن عباس أن التّوراة لما نزلت أمر الله موسى بحملها فلم يطق ذلك ، فبعث لكل حرف منها ملكا فلم يطيقوا حملها ، فخفّفها الله على موسى ـ عليه الصّلاة والسلام ـ فحملها.
[قوله](١) : (وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ) التضعيف في «قفّينا» ليس للتّعدية ؛ إذ لو كان كذلك لتعدّى إلى اثنين ؛ لأنه قيل : التضعيف يتعدّى لواحد ، نحو : «قفوت زيدا» ، ولكنه ضمّن معنى «جئنا» كأنه قيل : وجئنا من بعده بالرّسل.
فإن قيل : يجوز أن يكون متعديا لاثنين على معنى أنّ الأول محذوف ، والثاني «بالرسل» والباء فيه زائدة تقديره : «وقفّينا من بعده الرسل».
فالجواب : أن كثرة مجيئه في القرآن كذلك يبعد هذا التّقدير ، وسيأتي لذلك مزيد بيان في «المائدة» [الآية : ٤٦] إن شاء الله تعالى.
و «قفّينا» أصله : قفّونا ، ولكن لما وقعت «الواو» رابعة قلبت «ياء» ، واشتقاقه من «قفوت» ، وقفوته إذا اتّبعت قفاه ، ثم اتّسع فيه ، فأطلق على تابع ، وإن بعد زمان التابع عن زمان المتبوع.
قال أميّة : [البسيط]
٦٤٦ ـ قالت لأخت له قصّيه عن جنب |
|
وكيف تقفو ولا سهل ولا جبل (٢) |
و «القفا» : مؤخّر العنق ، ويقال له : القافية أيضا ، ومنه الحديث : «يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم» (٣).
__________________
(١) سقط في ب.
(٢) ينظر ديوانه : (٢٦) ، البحر : (١ / ٤٦٤) ، الدر المصون : ١ / ٢٩٢.
(٣) متفق عليه من رواية أبي هريرة رضي الله عنه فقد أخرجه البخاري في الصحيح (٣ / ٢٤) كتاب التهجد ـ