وأجاز الرّاغب أن يكون (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ) معطوفا على قوله : «وآتيناه» ، ويكون «أفكلّما» مع ما بعده فصلا بينهما على سبيل الإنكار. والأظهر الأول وإن كان ما قاله محتملا.
فصل في بيان الذي استحق به بنو إسرائيل نهاية الذم
هذا نهاية الذّم ؛ لأن اليهود من بني إسرائيل كانوا إذا أتاهم رسول بخلاف ما يهوون كذبوه ، وإن تهيأ لهم قتله قتلوه ، لإرادتهم الرّفعة في الدنيا ، وطلب لذاتها ، والتّرؤس على عامتهم ، وأخذ أموالهم بغير حقّ ، وكانت الرسل تبطل عليهم ذلك ، فيكذبونهم ويوهمون عوامهم كونهم كاذبين ، ويحتجون في ذلك بالتحريف وسوء التأويل ، وبعضهم كان يستكبر على الأنبياء استكبار إبليس على آدم عليه الصلاة والسّلام ، فلما سمعت اليهود ذكر عيسى ـ عليه الصّلاة والسلام ـ قالوا : يا محمد لا مثل عيسى فعلت كما تزعم ولا كما تقص علينا من الأنبياء فعلت فائتنا بما أتى به عيسى ـ عليه الصلاة والسّلام ـ إن كنت صادقا ، فقال الله عزوجل : أفكلّما جاءكم يا معشر اليهود رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ، وتعظّمتم عن الإيمان به ، فطائفة كذبتم مثل عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، وطائفة تقتلون أي : قتلتم مثل : زكريا ويحيى وشعيب ، وسائر من قتلوا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
قوله تعالى : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ)(٨٨)
(قُلُوبُنا غُلْفٌ) مبتدأ وخبر ، والجملة في محلّ نصب بالقول قبله ، وقرأ الجمهور (١) : «غلف» بسكون اللام ، وفيها وجهان :
أحدهما : وهو الأظهر أن يكون جمع «أغلف» ك «أحمر وحمر» و «أصفر وصفر» ، والمعنى على هذا : أنها خلقت وجعلت مغشّاة لا يصل إليها الحقّ ، فلا تفهمه ونظيره : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) [فصلت : ٥] قال مجاهد وقتادة استعارة من الأغلف الذي لم يختتن.
والثاني : أن يكون جمع «غلاف» ، ويكون أصل اللام الضم ، فتخفف نحو : «حمار وحمر» ، «وكتاب وكتب» ، إلّا أن تخفيف «فعل» إنما يكون في المفرد غالبا نحو : «عنق» في «عنق» وأما «فعل» الجمع فقال ابن عطية : «لا يجوز تخفيفه إلّا في ضرورة» ، وليس كذلك ، بل هو قليل ، وقرأ ابن عبّاس والأعرج (٢) ـ ويروى عن أبي عمرو ـ بضمّ اللام ، وهو جمع «غلاف» ، ولا يجوز أن يكون «فعل» في هذه القراءة جمع أغلف ؛ لأن تثقيل
__________________
(١) انظر في قراءة الجمهور : الحجة للقراء السبعة : ٢ / ٢٥٣.
(٢) وقرأ بها ابن محيصن ، وابن هرمز.
انظر الحجة للقراء السبعة : ٢ / ١٥٣ ، وإتحاف فضلاء البشر : ١ / ٤٠٣ ، والمحرر الوجيز : ١ / ١٧٧ ، والبحر المحيط : ١ / ٤٦٩ ، والدر المصون : ١ / ٢٩٦.