الاستدلال بهذا إنما يصحّ لو ثبت كون القرآن حقّا ، والنزاع ليس إلا فيه.
والجواب كون الموت متضمنا للآلام يكون كالصارف عن تمنّيه.
قلنا : كما أن الألم الحاصل عند الحجامة لا يصرف عن الحجامة للعلم الحاصل ؛ لأن المنفعة الحاصلة عن الحجامة عظيمة وجب أن يكون الأمر هاهنا كذلك.
وقوله : لو قلبوا الكلام على محمد لزمه أن يرضى بالقتل.
قلنا : الفرق بين محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ وبينهم أن محمدا كان يقول : إني [مبعوث](١) لتبليغ الشّرائع إلى أهل التّواتر ، وهذا المقصود لم يحصل بعد فلأجل هذا لا أرضى بالقتل ، وأما أنتم فلستم كذلك فظهر الفرق.
وقوله ثالثا : كانوا خائفين من العقاب.
قلنا : القوم ادعوا أن الآخرة خالصة لهم ، وذلك يؤمنهم من الامتزاج.
وقوله رابعا : نهي عن تمني الموت.
قلنا : هذا النهي طريقه الشرع ، فيجوز أن يختلف الحال فيه بحسب اختلاف الأوقات.
فصل في بيان متى يتمنى الموت
روي أن عليّا ـ رضي الله عنه ـ كان يطوف بين الصّفّين في [غلالة](٢) ، فقال له ابنه الحسن ـ رضي الله عنه ـ ما هذا بزيّ المحاربين ، فقال : يا بنيّ ، لا يبالي أبوك أعلى الموت سقط أم عليه [يسقط].
وقال عمار ـ رضي الله عنه ـ ب «صفين» : [الرجز]
٦٧٢ ـ الآن ألاقي الأحبّه |
|
محمدا وحزبه (٣) |
وقد ظهر عن الأنبياء في كثير من الحالات تمنّي الموت على أن هذا النهي مختصّ بسبب مخصوص ، فإنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ حرّم أن يتمنّى الإنسان الموت عند الشّدائد ؛ لأن ذلك كالجزع والخروج عن الرضا بما قسم الله ـ تعالى ـ فأين هذا مما نحن فيه؟
وقولهم خامسا : «إنهم ما عرفوا المراد التمنّي باللسان أم بالقلب؟».
قلنا : التمني في لغة العرب لا يعرف إلا بما يظهر بالقول ، كما أن الخبر لا يعرف إلّا بما يظهر بالقول ، ومن المحال أن يقول عليه الصلاة والسلام : «تمنّوا الموت» ، ويريد بذلك [ما لا يمكن الوقوف عليه] ، مع أن الغرض بذلك لا يتمّ إلّا بظهوره.
__________________
(١) في ب : بعثت.
(٢) في أ : غلالته.
(٣) ينظر الفخر الرازي : ٣ / ١٦٠ ، الكشاف : ١ / ٢٩٧.