فصل في بيان أن بالآية غيبين
واعلم أن هذا إخبار عن غيب آخر ؛ لأنه أخبر أن ذلك لا يوجد في شيء من الأزمنة ، ولا شك أن الإخبار عن عدمه بالنسبة إلى عموم الأوقات (١) فهما غيبان ، وقال هنا : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ) [البقرة : ٩٥] فنفى ب «لن» ، وفي الجمعة ب «لا» [قال صاحب «المنتخب» :](٢) وذلك لأن دعواهم ـ هنا ـ أعظم من دعواهم هناك؟ لأن السعادة القصوى فوق مرتبة الولاية ؛ لأن الثانية تراد لحصول الأولى ، فإنهم ادعوا هنا أنّ الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس ، وادعوا في سورة «الجمعة» أنهم أولياء لله من دون النّاس ، والسعادة القصوى هي الحصول في دار الثواب ؛ ومرتبة الولاية ـ وإن كانت شريفة ـ إلا أنها لا تراد ليتوسّل بها إلى الجنة ، فلما كانت الأولى أعظم لا جرم ورد النفي ب «لن» ؛ لأنه أبلغ من النفي ب «لا».
قوله : (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بيان للعلّة التي لها لا يتمنّون ؛ لأنهم إذا علموا سوء طرقهم وكثرة ذنوبهم دعاهم ذلك إلى عدم تمنّي الموت ، وهذه الجملة متعلّقة ب «يتمنّوه» ، والباء للسببية ، أي : بسبب اجتراحهم العظائم ، و «أيديهم» في محلّ رفع حذفت الضمة من الباء لثقلها مع الكسرة.
و «ما» يجوز فيها ثلاثة أوجه :
أظهرها : كونها موصولة بمعنى «الذي».
والثاني : نكرة موصوفة ، والعائد على كلا القولين محذوف ، أي : بما قدّمته ، فالجملة لا محلّ لها على الأولى ، ومحلّها الجر على الثاني.
والثالث : أنها مصدرية أي : بتقدمة أيديهم.
ومفعول «قدمت» محذوف أي : بما قدمت أيديهم الشّر ، أو التبديل ونحوه.
قوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) ابتداء وخبر ، وهذا كالزّجر والتهديد ؛ لأنه إذا كان عالما بالسر والنجوى لا يخفى عليه شيء صار ذلك من أعظم الصّوارف للمكلّف عن المعاصي ، وإنما ذكر الظالمين ؛ لأن كلّ كافر ظالم ، وليس كلّ ظالم كافرا ، فذكر الأعم ؛ لأنه أولى بالذكر.
قوله تعالى : (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ)(٩٦)
فأخبر تعالى أولا بأنهم لا يتمنّون الموت ، ثم أخبر عنهم هنا بأنهم في غاية الحرص ؛ لأن ثم قسما آخر ، وهو أن يكون الإنسان بحيث لا يتمنّى الموت ، ولا يتمنّى الحياة.
__________________
(١) في أ : الأشخاص.
(٢) سقط في ب.