وثالثها : قوله ـ تعالى ـ في صفة جبريل عليه الصلاة والسلام : (مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) [التكوير : ٢١] ذكره بوصف المطاع على الإطلاق ، وظاهره يقتضي كونه مطاعا بالنسبة إلى ميكائيل ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ فوجب أن يكون أفضل منه.
فإن قيل : حقّ العداوة الإضرار بالعدو ، وذلك محال على الله تعالى ، فكيف يجوز أن يكونوا أعداء الله؟
فالجواب : أن معنى العداوة على الحقيقة لا يصح إلّا فينا ؛ لأن العدو للغير هو لذي يريد إنزال المضارّ به ، وذلك محال على الله ـ تعالى ـ بل المراد أحد وجهين : إما أن يعادوا أولياء الله ، فيكون ذلك عداوة لله ، كقوله : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [المائدة : ٣٣] ، وكقوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) [الأحزاب : ٥٧] ؛ لأن المراد بأولياء الله دونه لاستحالة المحاربة والأذيّة عليه ، وإما أن يراد بذلك كراهيتهم القيام بطاعته وعبادته ، وبعدهم عن الطريقة ، فلما كان العدو لا يكاد يوافق عدوه أو ينقاد له شبه طريقتهم في هذا الوجه بالعداوة.
قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ) (٩٩)
قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قبل مبعثه ، فلما بعث من العرب كفروا به ، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه ، فقال لهم معاذ بن جبل : يا معشر اليهود اتّقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ، ونحن أهل الشرك ، وتخبروننا أنه مبعوث ، وتصفون لنا صفته.
فقال ابن صوريا : يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه من الآيات ، وما هو بالذي كنا نذكر لكم ، فأنزل الله ـ تعالى ـ هذه الآيات (١) ، والمرادة بالآيات البينات : آيات القرآن مع سائر الدّلائل من المباهلة ، ومن تمني الموت وسائر المعجزات نحو : إشباع الخلق الكثير من الطعام القليل [ونبع](٢) الماء من بين أصابعه وانشقاق القمر.
وقال بعضهم : الأولى تخصيص ذلك بالقرآن ، لأن الآيات إذا قرنت بالتنزيل كانت أخصّ بالقرآن.
فإن قيل : الإنزال عبارة عن تحريك الشّيء من أعلى إلى أسفل ، وذلك محقّق في الأجسام ، ومحال في الكلام.
فجوابه : أن جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما نزل من الأعلى إلى الأسفل وأخبر به سمي ذلك إنزالا.
__________________
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٢ / ٣٩٨) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ١٨١) وزاد نسبته لابن إسحاق وابن أبي حاتم عن ابن عباس والأثر ذكره ابن هشام في «السيرة النبوية» (٢ / ١٩٦).
(٢) في ب : ونبوع.