وقوله عليه الصلاة والسلام : «إنّ أبغضكم إليّ الثّرثارون المتفيهقون» (١).
[الثرثرة : كثرة الكلام وتردده ، يقال : ثرثر الرجل فهو ثرثار مهذار والمتفيهق نحوه](٢) قال ابن دريد : فلان يتفيهق في كلامه إذا توسّع وتنطّع ، قال : «وأصله الفهق ، وهو الامتلاء كأنه ملأ به فمه».
قال القرطبي رحمهالله تعالى : وبهذا المعنى الذي ذكرناه فسره عامر الشعبي راوي الحديث وصعصعة بن صوحان ، فقالا : أما قوله صلىاللهعليهوسلم : «إنّ من البيان لسحرا» ، فالرجل عليه الحق وهو ألحن بالحجج من صاحب الحقّ [فيسحر] القوم ببيانه ، فيذهب بالحق ، وهو عليه ، وإنما يحمد العلماء البلاغة واللسان ما لم تخرج إلى حدّ الإسهاب والإطناب ، وتصوير الباطل في صورة الحق.
فإن قيل : كيف يجوز أن يسمى ما يوضح إظهار الحقّ سحرا ، وهو إنما قصد إظهار الخفي لا إخفاء الظاهر ، ولفظ السحر إنما يفيد الظاهر؟
فالجواب : إنما سمي السّحر سحرا لوجهين :
الأول : أن ذلك القدر للطفه وحسنه استمال القلوب ، فأشبه السّحر الذي يستميل القلوب من هذا الوجه.
الثاني : أنّ القادر على البيان يكون قادرا على تحسين ما يكون قبيحا ، وتقبيح ما يكون حسنا فأشبه السحر من هذا الوجه.
فصل في ماهية السحر
قال بعض العلماء : إن السّحر تخيّل لا حقيقة له ، لقوله تعالى : (يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) [طه : ٦٦].
وقيل : إنه حقيقة ؛ لأنّ النبي صلىاللهعليهوسلم سحره لبيد بن الأعصم فإن السحر أخرج من بئر ، وحلت عقوده ، وكلما انحلت عقدة خفّ عنه عليهالسلام إلى أن سار كما نشط من عقال.
__________________
ـ وأبو داود في السنن حديث رقم (٣٥٨٣) ـ والموطأ (٧١٩) والبيهقي في السنن (١٠ / ١٤٩) ـ والخطيب في التاريخ (٤ / ١٠٠) ، (٧ / ١٧٩) ـ وذكره السيوطي في الدر المنثور ١ / ٢٠٣ وابن حجر في فتح الباري ١٢ / ٣٣٩ ، ١٣ / ١٥٧.
(١) أخرجه الترمذي في السنن ٤ / ٣٢٥ كتاب البر والصلة (٢٨) باب ما جاء في معالي الأخلاق (٧١) حديث رقم ٢٠١٨.
وأخرجه أحمد في المسند ٤ / ١٩٣ عن أبي ثعلبة الخشني ولفظه : (إن أحبكم إلي وأقربكم مني في الآخرة محاسنكم أخلاقا ، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني في الآخرة مساوئكم أخلاقا ؛ الثرثارون والمتفيهقون المتشدقون) ، وذكره القرطبي في التفسير ٢ / ٤٥.
(٢) سقط في ب.