وثالثها : اسمعوا ما أمرتكم به حتى لا ترجعوا إلى ما نهيتم عنه تأكيدا عليهم ، ثم إنه تعالى بين ما للكافرين من العذاب الأليم إذا لم يسلكوا مع الرسول هذه الطريقة من الإعظام والتبجيل والإصغاء إلى ما يقول.
وتقدم الكلام على معنى «العذاب الأليم».
قوله تعالى : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ)(١٠٥)
لما بين حال اليهود والكفار في العداوة والمعاندة وصفهم بما يوجب الحذر منهم فقال : (ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) فنفى عن قلوبهم الودّ والمحبة لكلّ ما يظهر به فضل المؤمنين.
قوله : (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ :) في «من» قولان :
أحدهما : أنها للتبعيض ، فتكون هي ومجرورها في محلّ نصب على الحال ، ويتعلّق بمحذوف أي : ما يودّ الذين كفروا كائنين من أهل الكتاب.
والثاني : أنها لبيان الجنس ، وبه قال الزمخشري ؛ لأن (الَّذِينَ كَفَرُوا) جنس تحته نوعان أهل الكتاب والمشركون بدليل قوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) [البينة : ١].
قوله : (وَلَا الْمُشْرِكِينَ) عطف على «أهل» المجرور ب «من» و «لا» زائدة للتوكيد ؛ لأن المعنى : ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين كقوله : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) بغير زيادة «لا».
وزعم بعضهم أنه مخفوض على الجوار ، وأن الأصل ولا المشركون ، عطفا على الذين ، وإنما خفض للمجاورة ، نحو (بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) [المائدة : ٦] في قراءة (١) الجر ، وليس بواضح.
وقال النحاس : ويجوز : ولا المشركون بعطفه على «الذين» وقال أبو البقاء رحمهالله : وإن كان قد قرىء : «ولا المشركون» بالرفع فهو عطف على الفاعل ، والظاهر أنه لم يقرأ بذلك وهذان القولان يؤيدان ادّعاء الخفض على الجوار.
قوله : (أَنْ يُنَزَّلَ) ناصب ومنصوب في تأويل مصدر مفعول ب «يودّ» أي : ما يود إنزاله من خير ، وبني الفعل للمفعول للعمل بالفاعل ؛ وللتصريح به في قوله : (مِنْ رَبِّكُمْ) ، وأتي ب «ما» في النفي دون غيرها ؛ لأنها لنفي الحال ، وهم كانوا متلبّسين بذلك.
__________________
(١) ستأتي في المائدة ٦.