ويجوز : «وإنهم» بالكسر على القطع.
فصل في رؤية الله تعالى
استدلّ بعض العلماء بقوله : (مُلاقُوا رَبِّهِمْ) على جواز رؤية الله تعالى (١) ، قالت
__________________
(١) اتفقت كلمة الأشاعرة على جواز رؤية تعالى عقلا ، في الدنيا والآخرة ، بمعنى : أنه تعالى يجوز أنه ينكشف لعباده المؤمنين من غير ارتسام صورة ، ولا اتصال شعاع ، ولا حصول في جهة ومكان. واستدلوا على ذلك بأدلة نقلية وأدلة عقلية ، فلنذكر الأدلة النقلية ؛ لأنها الأصل في هذا الباب ، وهي أكثر من أن تحصى ، والمعتمد منها عند أهل السنة قوله تعالى ـ حكاية عن سيدنا موسى عليهالسلام : في ميقات المناجاة ـ : (قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ).
تنطق الآية الكريمة بمسألة تتعلق بالذات الأقدس ، وهي مسألة الرؤية ، ولم يحدّد النطق الكريم الحكم فيها ، بل ترك لذوي العقول البحث.
فكان القول بجوازها ووقوعها ، وكان القول باستحالتها وعدم وقوعها ، ولم يكن لصاحب كل قول في الآية الكريمة ما يعتمد عليه صريحا ، بل كل مستند له هو الركون إلى اللغة تارة ، واللجوء إلى الدليل العقلي أخرى ، غير أن أهل السّنة نظروا إلى ظروف الآية وما سيقت لأجله ، فكانت عضدا قويا ركنوا إليه.
فالآية الكريمة تقول : لقد دعي موسى ـ عليهالسلام ـ لمناجاتنا ، ورفعناه إلى هذا المستوى ، واتّصل بالأفق الأعلى ، وانتهى من الإنسانية إلى الذروة العليا ، وشهد من أمر الله ما لم يصل غيره إلى تعقله بأقوى الأدلة والبراهين ، وأنزله هذه المنزلة ، ووقف في ساحة جلاله ، وحظائر قدسه ، ومساقط أنوار جماله ، وذاق حلاوة خطابه.
أليس يطلب إلى ربه أن يمتعه بالنظر إلى ذاته الأقدس ليجمع بين حلاوة الكلام ، وجمال الرؤية ، ويؤيّد أن الحامل لموسى ـ عليهالسلام ـ على طلب الرؤية عوامل الشوق ، ما روي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : «جاء موسى ـ عليهالسلام ـ ومعه السبعون رجلا ، وصعد موسى الجبل ، وبقي السبعون في أسفل الجبل ، فكلّم الله موسى وكتب له في الألواح كتابا وقربه نجيّا ، فلما سمع موسى صرير القلم ، عظم شوقه ، فقال : رب أرني أنظر إليك ، نعم ، طلبها بعامل الشوق ، وقال : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) ولم يكن موسى قد جرى في هذه القضية على غير المألوف ، حيث جعل النظر سببا عن الرؤية ، والحال أن النظر تقليب الحدقة نحو الشيء ؛ التماسا لرؤيته ، فهي متأخرة عنها ؛ إذ الفرض (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) مكّنّي من رؤيتك ، فأنظر إليك وأراك ، ففي الكلام ذكر الملزوم وإرادة اللازم ـ نعم ، أقدم موسى على طلب النظر إلى الذات الأقدس ، وانتظر ما يكون من أمر الله ، وقد وقع عليه عمود من الغمام ، وتغشّى الجبل جلال الرب ، وسمع النطق الكريم «و (لَنْ تَرانِي) عند هذه الآية الكريمة تقف المعتزلة رافعة الرأس ، ولو أنهم لاحظوا ما كان من حب موسى ، واصطفاء الله له ، لم ينصرف ذهنهم إلى المنع من مطالعة الذات الأقدس ، بل المتبادر إلى الذهن لن تقوى على رؤيتي وأنت على ما أنت عليه ، لتوقفها على استعداد في الرأي ، ولم يوجد في موسى ـ عليهالسلام ـ وقت الطلب ، يشهد لهذا ما أخرجه الترمذي في «نوادر الأصول» عن ابن عباس (تلا رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ هذه الآية فقال : قال الله ـ تعالى ـ : يا موسى إني لا يراني حي إلا مات ، ولا رطب إلا تفرق ، وإنما يراني أهل الجنة الذين لا تموت أعينهم ولا تبلى أجسامهم). ـ