بشبهة يلقيها إليه ، لأنّ المحق لا يعدل عن الحق إلّا بشبهة ، والشبهة ضربان :
أحدهما : ما يتّصل بالدنيا ، وهو أن يقال لهم : قد علمتم ما نزل بكم من إخراجكم من دياركم ، وضيق الأمر عليكم ، واستمرار المخافة بكم ، فاتركوا الإيمان الذي ساقكم إلى هذه الأشياء.
والثاني : في باب الدين : بطرح الشبه في المعجزات ، أو تحريف ما في التوراة.
فصل في المقصود بأمر الله
قوله : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) يحتمل أمرين :
الأول : أن المراد ترك المقابلة والإعراض عن الجواب ؛ لأن ذلك أقرب إلى تسكين الثائرة في الوقت ، فكأنه ـ تعالى ـ أمر الرسول بالعفو والصفح عن اليهود ، فكذا أمره بالعفو والصفح عن مشركي العرب بقوله تعالى : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) [الجاثية : ١٤] وقوله : (وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) [المزمل : ١٠] ولذلك لم يأمر بذلك على الدوام ، بل علّقه بغاية ، فقال : (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ).
وذكروا فيه وجوها :
أحدها : أنه المجازاة يوم القيامة عن الحسن.
وثانيها : أنه](١) قوة الرسول صلوات الله وسلامه عليه وكثرة أمته.
وثالثها : وهو قول أكثر الصحابة والتابعين رضي الله عنهم ، أنه الأمر بالقتال ؛ لأن عنده يتعين أحد أمرين :
إما الإسلام ، وإما الخضوع لدفع الجزية ، وتحمل الذل والصّغار ، فلهذا قال العلماء : إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة : ٢٩].
وروي أنّه لم يؤمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بقتال حتى نزل جبريل ـ عليه الصلاة والسلام ـ بقوله : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا) [الحج : ٣٩] وقلّده سيفا فكان أول قتال قاتل أصحاب عبد الله بن جحش ب «بطن نخل» ، وبعده غزوة «بدر».
فإن قيل : كيف يكون منسوخا وهو معلق بغاية كقوله : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ) [البقرة : ١٨٧]. وإن لم يكن ورود الليل ناسخا ، فكذا هاهنا.
فالجواب : أن الغاية التي تعلق بها الأمر إذا كانت لا تعلم إلا شرعا لم يخرج ذلك الوارد شرعا عن أن يكون ناسخا ، ويحلّ محل قوله تعالى : (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) إلى أن أنسخه عنكم.
__________________
(١) سقط في أ.