فإن قيل : كيف يعفون ويصفحون ، والكفار كانوا أصحاب الشوكة والقوة ، والصفح لا يكون إلا عن قدرة؟
فالجواب : أن الرجل من المسلمين كان ينال بالأذى ، فيقدر في تلك الحالة قبل اجتماع الأعداء أن يدفع عداوتهم عن نفسه وأن يستعين بأصحابه ، فأمر الله سبحانه تعالى عند ذلك بالعفو والصفح كي لا يهيّجوا شرا وقتالا.
قال القرطبي رحمهالله : [قال أبو عبيدة :](١) كل آية فيها ترك للقتال فهي مكّية منسوخة بالقتال.
قال ابن عطية : [الحكم](٢) بأن هذه الآية مكّية ضعيف : لأن معاندات اليهود أنما كانت ب «بالمدينة».
قال القرطبي : «وهو الصحيح».
[التفسير الثاني : العفو والصفح](٣) أنه حسن الاستدعاء ، واستعمال ما يلزم فيهم من النصح والإشفاق ، والتشدّد فيه ، وهذا لا يجوز نسخه.
وقوله : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تحذير لهم بالوعيد ، سواء حمل على الأمر بالقتال أو غيره.
قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(١١٠)
لما أمرنا بالعفو والصفح عن اليهود عقبه بقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) تنبيها لهما على ما أعد لهما من الواجبات وقوله بعده : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ) [المزمل : ٢٠]. الأظهر أن المراد به التطوّعات من الصلوات والزكوات ، وبيّن تعالى أنهم يجدونه ، وليس المراد أنهم يجدون عين تلك الأعمال ؛ لأنها لا تبقى ، ولأن وجدان عين تلك الأشياء ، ولا يرغب فيه ، فبقي أن المراد وجدان ثوابه وجزائه.
قوله تعالى : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ) كقوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ).
فيجوز في «ما» أن تكون مفعولا بها ، وأن تكون واقعة موقع المصدر ، ويجوز في «من خير» الأربعة أوجه التي في «من آية» : من كونه مفعولا به ، أو حالا ، أو تمييزا ، أو متعلّقا بمحذوف.
و «من» تبعيضية ، وقد تقدم تحقيقها ، فليراجع ثمّة.
و «لأنفسكم» متعلّق ب «تقدمّوا» ، أي : لحياة أنفسكم ، وحذف ، و «تجدوه» جواب الشرط ، وهي متعدّية لواحد ؛ لأنها بمعنى الإصابة ، ومصدرها الوجدان بكسر
__________________
(١) سقط في ب.
(٢) في ب : وحكمه.
(٣) سقط في أ.