وقال أبو البقاء : والثاني : أنه ماض والضمير للغائبين ، والتقدير : أينما يتولّوا ، يعني : أنه وإن كان ماضيا لفظا فهو مستقبل معنى ثم قال : وقد يجوز أن يكون ماضيا قد وقع ، ولا يكون «أين» شرطا في اللفظ ، بل في المعنى ، كما تقول : «ما صنعت صنعت» إذا أردت الماضي ، وهذا ضعيف ؛ لأن «أين» إما شرط ، أو استفهام ، وليس لها معنى ثالث. انتهى وهو غير واضح.
قوله : (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) الفاء وما بعدها جواب الشّرط ، فالجملة في محلّ جزم ، و «ثمّ» خبر مقدم ، و «وجه الله» رفع بالابتداء ، و «ثمّ» اسم إشارة للمكان البعيد خاصة مثل : هنا وهنّا بتشديد النون ، وهو مبني على الفتح لتضمّنه معنى حرف الإشارة أو حرف الخطاب. قال أبو البقاء : لأنك تقول في الحاضر هنا وفي الغائب هناك ، وثمّ ناب عن هناك [وهذا ليس بشيء](١).
وقيل : بني لشبهه بالحرف في الافتقار ، فإنه يفتقر إلى مشار إليه ، ولا ينصرف بأكثر من جره ب «من».
ولذلك غلط بعضهم في جعله مفعولا في قوله : (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ) [الإنسان : ٢٠] ، بل مفعول «رأيت» محذوف.
فصل في نفي التجسيم
وهذه الآية من أقوى الدلائل على نفي التجسيم وإثبات التنزيه ؛ لأنه لو كان الله ـ تعالى ـ جسما ، وله وجه جسماني لكان مختصّا بجانب معين وجهة معينة ، ولو كان كذلك لكان قوله: (فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) كذبا ، ولأن الوجه لو كان محاذيا للمشرق لاستحال في ذلك الزمان أن يكون محاذيا للمغرب أيضا ، وإذا ثبت هذا ، فلا بد فيه من التأويل ، ومعنى (وَجْهُ اللهِ) جهته التي ارتضاها قبلة وأمر بالتوجه نحوها ، أو ذاته نحو : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) [القصص : ٦٨] ، أو المراد به الجاه ، أي : فثمّ جلال الله وعظمته من قولهم : هو وجه القول ، أو يكون صلة زائدا ، وليس بشيء.
وقيل : المراد به العمل قاله الفراء ؛ وعليه قوله : [البسيط]
٧٥١ ـ أستغفر الله ذنبا لست محصيه |
|
ربّ العباد إليه الوجه والعمل (٢) |
__________________
(١) سقط في ب.
(٢) ينظر أدب الكاتب : ٥٢٤ ، والأشباه والنظائر : ٤ / ١٦ ، وأوضح المسالك : ٢ / ٢٨٣ ، وتخليص الشواهد : ٤٠٥ ، وخزانة الأدب : ٣ / ١١١ و ٩ / ١٢٤ ، والدرر : ٥ / ١٨٦ ، وشرح أبيات سيبويه : ١ / ٤٢٠ ، وشرح التصريح : ١ / ٣٩٤ ، وشرح شذور الذهب : ٤٧٩ ، وشرح المفصل : ٧ / ٦٣ ، ٨ / ٥١ ، والصاحبي في فقه اللغة : ١٨١ ، والكتاب : ١ / ١ / ٣٧ ، ولسان العرب [غفر] ، والمقاصد النحوية : ٣ / ٢٢٦ ، والمقتضب : ٢ / ٣٢١ ، وهمع الهوامع : ٢ / ٨٢.