إبراهيم ليكون ذلك كالحجّة على اليهود والنصارى في وجوب الانقياد لذلك.
ورابعها : أن القبلة لما حولت إلى الكعبة شقّ ذلك على اليهود والنصارى ، فبيّن الله ـ تعالى ـ أن هذا البيت قبلة إبراهيم الذي يعترفون بتعظيمه ، ووجوب الاقتداء به ، فكان ذلك مما يوجب زوال الغضب عن قلوبهم.
فصل في معنى الابتلاء
والابتلاء هنا الاختبار والامتحان ، وابتلاء الله ليس ليعلم أقوالهم بالابتلاء ؛ لأنه ـ تعالى ـ عالم بجميع المعلومات على سبيل التّفاصيل من الأزل إلى الأبد ، ولكن ليعلم الناس أحوالهم حتى يعرف بعضهم بعضا ، أو عاملهم معاملة المختبر.
واختلف في «الكلمات» فقال مجاهد : هي المذكورة بعدها في قوله تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) إلى آخرها من الآيات ، ورفع البيت ، وتطهير البيت ، ورفع القواعد ، والدعاء ببعث محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فإن هذه أمور شاقّة ؛ لأن الإمامة هاهنا هي النبوة وتتضمن مشاقا عظيمة. وأما بناء البيت وتطهيره ، ورفع قواعده ، فمن وقف على ما روي في كيفية بنائه عرف شدّة البلوى فيه ، ثم إنه يتضمّن إقامة المناسك ، وقد امتحن الله ـ تعالى ـ الخليل ـ عليه الصلاة والسلام ـ بالشّيطان في الموقف لرمي الجمار وغيرها.
وأما اشتغاله بالدعاء ببعث محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فهو مما يحتاج إلى إخلاص العمل لله تعالى ، وإزالة الحسد عن القلب ، فكل هذه تكاليف شاقّة ، ويدلّ على إرادة ذلك أنه عقبه بذكره من غير فصل بحرف عطف ، فلم يقبل وقال : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً).
واعترض القاضي على هذا ، فقال : إنما يجوز هذا لو قال تعالى : وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمها إبراهيم ، ثم قال بعد ذلك : إني جاعلك للناس إماما فأتمهن.
وأجيب عنه : بأنه ليس المراد من الكلمات الإمامة فقط ، بل الإمامة وبناء البيت وتطهيره والدعاء ببعث محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ فكأنه ـ تعالى ـ ابتلاه بمجموع هذه الأشياء ، فأخبر كأنه ابتلاه بأمور على الإجمال ، ثم أخبر عنه أنه أتمّها ، ثم عقب ذلك بالشرح والتفصيل ، وهذا ليس ببعيد.
وقال طاوس عن ابن عباس رضي الله عنهما : عشر خصال كانت فرضا في شرعه ، وهي سنّة في شرعنا : خمس في الرأس ، وخمس في الجسد ، أما التي في الرأس : فالمضمضة ، والاستنشاق ، وفرق الرأس ، وقصّ الشارب ، والسّواك ، وأما التي في البدن :
__________________
ـ عرفه الحنابلة بأنه : قصد مكة للنسك في زمن مخصوص.
انظر الاختيار : ١٧٧ ، مغني المحتاج : ١ / ٤٦٠ ، نهاية المحتاج : ٣ / ٢٣٣ ، الشرح الكبير : ٢ / ٢٠٢ ، المبدع : ٣ / ٢٨٣ ، كشف القناع : ٢ / ٣٧٥ ، أسهل المدارك : ١ / ٤٤١ ، الفواكه الدواني : ١ / ٤٠٦ ، مجمع الأنهر : ١ / ٢٥٩.