قوله تعالى : (اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) والجعل هنا يعني التّصيير ، فيتعدّى لاثنين ف «هذا» مفعول أول و «بلدا» مفعول ثان ، والمعنى : اجعل هذا البلد ، أو هذا المكان ، و «آمنا» صفة أي ذا أمن نحو : (عِيشَةٍ راضِيَةٍ) [الحاقة : ٢١] أو آمنا من فيه نحو : ليله نائم. والبلد معروف ، وفي تسميته قولان :
أحدهما : أنه مأخوذ من البلد.
والبلد في الأصل : الصدر يقال : وضعت الناقة بلدتها إذا بركت ، أي : صدرها ، والبلد صدر القرى ، فسمي بذلك.
والثاني : أن البلد في الأصل الأثر ، ومنه : رجل بليد لتأثير الجهل فيه.
وقيل لبركة البعير : «بلدة» لتأثيرها في الأرض إذا برك ، ؛ قال الشاعر : [الطويل]
٧٨٣ ـ أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة |
|
قليل بها الأصوات إلّا بغامها (١) |
إنما قال في هذه السورة «بلدا آمنا» على التنكير.
وقال في سورة إبراهيم : (هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) [إبراهيم : ٣٥] على التعريف لوجهين :
الأول : أن الدعوة الأولى وقعت ، ولم يكن المكان قد جعل بلدا ، كأنه قال : اجعل هذا الوادي بلدا آمنا ؛ لأنه ـ تعالى ـ حكى عنه أنه قال : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ) [إبراهيم : ٣٧].
فقال هاهنا اجعل هذا الوادي بلدا آمنا ، والدعوة الثانية وقعت وقد جعل بلدا ، فكأنه قال : اجعل هذا المكان الذي صيّرته بلدا ذا أمن وسلامة ، كقولك : جعلت هذا الرجل آمنا.
الثاني : أن يكون الدعوتان وقعتا بعدما صار المكان بلدا ، فقوله : (اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) تقديره : اجعل هذا البلد بلدا آمنا ، كقولك : كان اليوم يوما حارّا ، وهذا إنما تذكره للمبالغة في وصفه بالحرارة ؛ لأن التنكير يدلّ على المبالغة ، فقوله : (رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً) معناه : اجعله من البلدان الكاملة في الأمن ، وأما قوله : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) فليس فيه إلّا طلب الأمن لا طلب المبالغة ، والله أعلم.
فصل في المراد بدعاء سيدنا إبراهيم
قيل : المراد من الآية دعاء إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ للمؤمنين من سكّان
__________________
(١) البيت لذي الرمة ينظر ديوانه : ص ١٠٤ ، وخزانة الأدب : ٣ / ٤١٨ ، ٤٢٠ ، والدرر : ٣ / ١٦٨ ، وشرح شواهد الإيضاح : ص ٢٤٢ ، والكتاب : ٢ / ٣٣٢ ، ولسان العرب (بلد) ، (بغم) ، وشرح الأشموني : ١ / ٢٣٤ ، وشرح شواهد المغني : ١ / ٢١٨ ، ٣٩٤ ، ٢ / ٧٢٩ ، ومغني اللبيب : ١ / ٧٢ ، والمقتضب : ٤ / ٤٠٩ ، وهمع الهوامع : ١ / ٢٢٩ ، والدر المصون : ١ / ٣٦٦.