وثالثها : أن الأمن والخصب مما يدعو الإنسان إلى الذهاب إلى تلك البلدة ، فحينئذ يشاهد المشاعر العظيمة ، والمواقف الكريمة ، فيكون الأمن تتمّة في تلك الطاعة.
فصل في المراد بالأمن
اختلفوا في الأمن المسؤول هنا فقيل : الأمن من القحط ؛ لأنه أسكن ذرّيته بواد غير ذي زرع ولا ضرع.
وقيل : الأمن من الخسف والمسخ.
وقيل : الأمن من القتل هو قول أبي بكر الرازي ، واحتج عليه بأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ سأله الأمن أولا ، ثم سأله الرّزق ثانيا.
ولو كان المطلوب هو الأمن من القحط لكان سؤال الرّزق بعده تكرار ، وقد يجاب بأنه : لعل الأمن المسؤول هو الأمن من الخسف والمسخ ، أو لعله الأمن من القحط ، ثم الأمن من القحط قد يكون بحصول ما يحتاج إليه من الأغذية ، وقد يكون بالتّوسعة فيها ، فهو بالسؤال الأول طلب إزالة القحط ، وبالسؤال الثاني طلب التوسعة.
قال القرطبي رحمهالله تعالى : دعا إبراهيم لذريته وغيرهم بالأمن ، ورغد العيش. فروي أنه لما دعا بهذا الدعاء أمر الله ـ تعالى ـ جبريل ، فاقتلع «الطائف» من «الشام» فطاف بها حول البيت أسبوعا ، فسميت «الطائف» لذلك ، ثم أنزلها «تهامة» ، وكانت «مكة» وما يليها حين ذلك قفرا لا ماء فيها ولا نبات ، فبارك الله فيما حولها كالطائف وغيرها ، وأنبت فيها أنواع الثّمرات.
فصل في أنه متى صارت مكة آمنة؟
اختلفوا هل كانت مكة آمنة محرمة قبل دعوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، أو إنما صارت كذلك بدعوته؟
فقالوا : إنها كانت كذلك أبدا لقوله عليه الصلاة والسلام : «إنّ الله حرّم مكّة يوم خلق السّموات والأرض» (١).
__________________
(١) أخرجه البخاري في الصحيح ٣ / ٣٨ كتاب جزاء الصيد باب لا ينفر صيد الحرم حديث رقم ١٨٣٣ ، ٣ / ١٢٧ ، كتاب البيوع باب في الصواغ حديث رقم ٢٠٩٠ ، ٥ / ٣٠٩ ، كتاب المغازي باب ٥٤ حديث رقم ٤٣١٣.
وابن ماجه في السنن حديث رقم ٣٠٠٩ ـ وأحمد في المسند ٤ / ٣٢ والبيهقي في السنن ٨ / ٧١ ـ والطبراني في الكبير ١١ / ٣٣٥.
والبخاري في التاريخ : ١ / ٤٥١ ـ وعبد الرزاق في مصنفه حديث رقم ٩١٨٩ ، ٢١٩٢ ـ وذكره ابن عبد البر في التمهيد ٦ / ١٦٠ والهندي في كنز العمال حديث رقم ٣٤٦٥٢ ، ٣٤٦٧٧.