والثاني : أنه نعت لمسلمين أي : مسلمين مستقرين لك أي مستسلمين. والأول أقوى معنى.
فصل فيمن استدل بهذه الآية على القول بخلق الأعمال
استدلوا بهذه الآية على خلق الأعمال بقوله : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) ، فإن الإسلام إما أن يكون المراد منه الدين والاعتقاد ، أو الاستسلام والانقياد ، وكيف كان فقد رغبا في أن يجعلهما بهذه الصفة ، وجعلهما بهذه الصفة لا معنى له إلّا خلق ذلك فيهما ، فإن [الجعل](١) عبارة عن الخلق.
قال الله تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) [الأنعام : ١] فدلّ هذا على أن الإسلام مخلوق لله تعالى.
فإن قيل : هذه الآية الكريمة متروكة الظاهر ؛ لأنها تقتضي أنهما وقت السّؤال [كانا](٢) غير مسلمين إذ لو كانا مسلمين لكان طلب أن يجعلهما مسلمين طلبا لتحصيل الحاصل ، وإنه باطل ، لكن المسلمين أجمعوا على أنهما كانا في ذلك الوقت مسلمين ؛ ولأن صدور هذا الدّعاء منهما لا يصلح إلّا بعد أن كانا مسلمين ، وإذا ثبت أن الآية متروكة الظاهر لم يجز التمسّك بها ، سلمنا أنها ليست متروكة الظاهر ، لكن لا نسلم أن الجعل عبارة عن الخلق والإيجاد بل له معان أخر سوى الخلق :
أحدها : «جعل» بمعنى «صيّر» ، قال [الله] تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً) [الفرقان : ٤٧].
وثانيها : «جعل» بمعنى «وهب» ، تقول : جعلت لك هذه الضيعة وهذا العبد وهذا الغرس.
وثالثها : [جعل] بمعنى الوصف للشيء والحكم به كقوله تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) [الزخرف : ١٩].
وقال (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) [الأنعام : ١٠].
ورابعها : «جعل» كذلك بمعنى الأمر كقوله تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً) [السجدة: ٢٤] يعني أمرناهم بالاقتداء بهم ، وقال : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) [البقرة : ١٢٤] فهو الأمر.
وخامسها : أن يجعله بمعنى التعليم كقوله : جعلته كاتبا [وشاعرا](٣) إذا علمته ذلك.
__________________
(١) في ب : الجهل.
(٢) سقط في ب.
(٣) في أ : كذلك بالتعليم ؛ كقولك : جعلته كاتبا وفقيها.