حنيف ، وكانت العرب تدين بهذه الأشياء ، ثم كانت تشرك ، فقيل من أجل هذا «حنيفا ، وما كان من المشركين» ونظيره قوله : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) [يوسف : ٦].
فصل في الكلام على هذه الآية
اعلم أن الله تعالى ذكر هذه الآية على طريق الإلزام لهم وهو قوله : (مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) وتقديره : إن كان طريق الدين التقليد فالأولى في ذلك اتباع ملة إبراهيم حنيفا ؛ لأن هؤلاء المختلفين قد «اتفقوا» على صحّة دين إبراهيم ، والأخذ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف فيه ، فكأنه سبحانه وتعالى قال : إن كان المقول في الدين على الاستدلال والنظر ، فقد قدمنا الدلائل ، وإن كان المقول على التقليد ، فالرجوع إلى دين إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ وترك اليهودية والنصرانية أولى.
فإن قيل : اليهود والنصارى إن كانوا معترفين بفضل إبراهيم مقرّين أن إبراهيم ما كان من القائلين بالتشبيه والتثليث امتنع أن يقولوا بذلك ، بل لا بد وأن يكونوا قائلين بالتنزيه والتوحيد ، ومتى كانوا قائلين بذلك لمن يكن في دعوتهم إليه فائدة ، وإن كانوا منكرين فضل إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ أو كانوا مقرين به ، لكنهم أنكروا كونه منكرا للتجسيم والتثليث لم يكن ذلك متفقا عليه ، فحينئذ لا يصح إلزام القول بأن هذا متفق عليه ، فكان الأخذ به أولى.
فالجواب : أنه كان معلوما بالتواتر أن إبراهيم ـ عليه الصلاة والسلام ـ ما أثبت الولد لله ـ تعالى ـ فلما صح عن اليهود والنصارى أنهم قالوا بذلك ثبت أن طريقتهم مخالفة لطريقة إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
فإن قيل : أليس أن كلّ واحد من اليهود والنصارى يدعي أنه على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام؟
فالجواب أن إبراهيم كان قائلا بالتوحيد ، وثبت أن النصارى يقولون بالتّثليث ، واليهود يقولون بالتشبيه ، فثبت أنهم ليسوا على دين إبراهيم عليه الصلاة والسلام وأنّ محمدا عليه الصلاة والسلام لما ادعى التوحيد كان على دين إبراهيم.
فصل
[اعلم أن قوله تعالى : (وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا) ليس المراد منه التخيير ، إذ من المعلوم من حال اليهود أنها لا تجوّز اختيار النصرانية على اليهودية ، بل تزعم أنه كفر ، وكذلك أيضا حال النصارى ، وإنما المراد أن اليهود تدعو إلى اليهودية ، والنصارى إلى النصرانية ، فكل فريق يدعو إلى دينه ، ويزعم أنه على الهدى](١).
__________________
(١) سقط في ب.