فإن قيل : ما الحكمة في عدوله عن قوله : (وَاللهُ عَلِيمٌ) إلى (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ).
فالجواب : أن نفي النقائص وسلبها عن صفات الله ـ تعالى ـ أكمل من ذكر الصفات مجردة عن ذكر نفي نقيضها ، فإن نفي النقيض يستلزم إثبات النقيض وزيادة ، والإثبات لا يستلزم نفي النقيض ؛ لأن العليم قد يفضل عن النقيض ، فلما قال الله تعالى : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ) دلّ ذلك على أنه عالم ، وعلى أنه غير غافل ، وذلك أبلغ في الزجر المقصود من الآية.
فإن قيل : قد قال تعالى في موضع آخر : (وَاللهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ) [يوسف : ١٩].
فالجواب : أن ذلك سيق لمجرد الإعلام بالقصّة لا للزجر ، بخلاف هذه الآية ، فإن المقصود
بها الزجر والتهديد.
قوله تعالى : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ)(١٤١)
اعلم أنه ـ تعالى ـ لما حاجّ اليهود في هؤلاء الأنبياء عقبه بهذه الآية ليكون وعظا لهم ، وزجرا حتى لا يتّكلوا على فضل الآباء ، فكلّ واحد يؤخذ بعمله.
وأيضا أنه تعالى لما ذكر حسن طريقة الأنبياء الذين ذكرهم في هذه الآيات بين أن الدليل لا يتم بذلك ، بل كل إنسان مسؤول عن عمله ، ولا عذر له في ترك الحق بأن يتوهم أنه متمسّك بطريقة من تقدم ؛ لأنهم أصابوا أو أخطئوا لا ينفع هؤلاء ولا يضرهم لئلا يتوهم أن طريقة الدين التقليد.
فإن قيل : لم كررت هذه الآية؟
فالجواب من وجهين :
الأول : قال الجبّائي : إنه عنى بالآية الأولى إبراهيم ، ومن ذكر معه ، والثانية أسلاف اليهود.
قال القاضي : هذا بعيد ؛ لأن أسلاف اليهود والنصارى لم يجر لهم ذكر مصرح ، وموضع الشبهة في هذا القول أن القوم لما قالوا في إبراهيم وبنيه : إنهم كانوا هودا ، فكأنهم قالوا : إنهم كانوا على مثل طريقة أسلافنا من اليهود ، فصار سلفهم في حكم المذكورين فجاز أن يقول : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ) ويعنيهم ولكن ذلك كالتعسّف ، بل المذكور السابق هو إبراهيم وبنوه ، فقوله : (تِلْكَ أُمَّةٌ) يجب أن يكون عائدا إليهم.
الوجه الثاني : أنه متى اختلفت الأوقات والأحوال والمواطن لم يكن التّكرار عبثا ، فكأنه ـ تعالى ـ قال : ما هذا إلا بشر ، فوصف هؤلاء الأنبياء فيما أنتم عليه من الدين لا يسوغ التقليد في هذا [الجنس](١) ، فعليكم بترك الكلام في تلك الأمة ، فلها ما كسبت ،
__________________
(١) في أ : الدين.