فكان ذلك نعمة في حقّ الباقين والموجودين في زمن محمد صلىاللهعليهوسلم لأنه رفع القتل عن آبائهم ، فكان نعمة في حقهم.
وثالثها : أنه ـ تعالى ـ لما بين أنّ توبة أولئك ما تمّت إلا بالقتل مع أن محمدا صلىاللهعليهوسلم كان يقول لهم : لا حاجة بكم الآن في التوبة إلى القتل ، بل إن رجعتم عن كفركم ، وآمنتم قبل الله إيمانكم فكان بيان التّشديد في تلك التوبة تنبيها على أن توبة الحاضرين نعمة عظيمة لكونها سهلة هيّنة.
ورابعها : أن فيه ترغيبا شديدا لأمة محمد صلىاللهعليهوسلم في التوبة ، فإن أمة موسى ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ لما رغبوا في تلك التّوبة مع [غاية](١) مشقّتها على النفس ، فلأن نرغب نحن في التوبة التي هي مجرّد الندم أولى.
فصل في كيفية قتل أنفسهم
أجمعوا على أنه لم يؤمر كلّ واحد من عبدة العجل بأن يقتل نفسه بيده ، قال الزّهري : لما قيل لهم : (فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ) قاموا صفّين ، وقتل بعضهم بعضا ، حتى قيل لهم : كفّوا ، فكان ذلك شهادة للمقتول وتوبة للحيّ.
وقيل : أرسل الله عليهم ظلاما ففعلوا ذلك.
وقيل : قام السبعون الذين كانوا مع موسى فقتلوا ، إذ لم يعبدوا العجل. وقيل : إن يوشع بن نون خرج عليهم وهم محتبون فقال : ملعون من حلّ حبوته أو مدّ طرفه إلى قاتله ، أو اتّقاه بيد أو رجل. فلم يحلّ أحد منهم حبوته حتى قتل منهم من قتل. ذكره النحاس وغيره. وإنما عوقب الذين لم يعبدوا العجل بقتل أنفسهم ـ على القول الأول ـ لأنهم لم يغيروا المنكر ، وإنما اعتزلوا ، وكان الواجب عليهم أن يقاتلوا من عبده.
وهذه سنّة الله في عبادة ، قال رسول الله عليه الصلاة والسلام : «ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعزّ منهم وأمنع لا يغيّرون إلا عمّهم الله بعقاب» (٢).
فإن قيل : التوبة لا تكون إلا للباري فما الفائدة في ذكره؟
والجواب : كأنه قال : لما أذنبتم إلى الله وجب أن تتوبوا إلى الله.
فإن قيل : كيف استحقّوا القتل ، وهم تابوا من الردّة ، والتائب من الردة لا يقتل؟
والجواب : أن ذلك مما يختلف [بالشرائع](٣).
__________________
(١) في ب : نهاية.
(٢) أخرجه ابن ماجه في السنن (٢ / ١٣٢٩) كتاب الفتن (٣٦) باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (٢٠) حديث رقم (٤٠٠٩) وأبو داود كتاب الملاحم ب ١٧ وأحمد (٤ / ٣٦٤) والبيهقي ١٠ / ٩١.
(٣) في ب : بالتشريع.