فصل في تفسير «الكتمان»
قال القاضي (١) : الكتمان ترك إظهار الشّيء مع الحاجة إليه وحصول الداعي إلى إظهار ؛ لأنّه متى لم يكن كذلك ، لا يعدّ من الكتمان ، فدلّت الآية على أنّ ما يتّصل بالدّين ، ويحتاج المكلّف إليه ، لا يجوز كتمانه.
ونظير هذه الآية قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) [البقرة : ١٧٤] وقوله سبحانه وتعالى : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) [آل عمران : ١٨٧] فهذه كلّها زواجر عن الكتمان.
ونظيرها في بيان العلم ، وإن لم يكن فيه ذكر الوعيد لكاتمه ، قوله سبحانه : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [التوبة : ١٢٢].
وروى أبو هريرة عن النبيّ ـ صلىاللهعليهوسلم قال : «من كتم علما يعلمه جيء يوم القيامة بلجام من نار» (٢).
__________________
(١) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٤ / ١٤٨.
(٢) أخرجه الترمذي (٥ / ٢٩) كتاب العلم باب ما جاء في كتمان العلم (٢٦٤٩) وابن ماجه (١ / ٩٦) رقم (٢٦١) وأبو داود (٣ / ٣٢١) كتاب العلم باب كراهيه منع العلم (٣٦٥٨) وابن حبان (٩٥ ـ موارد) وأحمد (٢ / ٤٩٥) والبغوي في «شرح السنة» (١ / ٣٠١) والطبراني في «الصغير» (١ / ١٦٤) والحاكم (١ / ١٠١) وأبو يعلى (١١ / ٢٦٨ ـ ٢٦٩) من طرق عن عطاء بن أبي رباح عن أبي هريرة مرفوعا.
وقال الترمذي : حديث أبي هريرة حديث حسن.
وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.
وله شاهد من حديث عبد الله بن عمرو :
أخرجه الحاكم (١ / ١٠٢) وابن حبان (٩٦ ـ موارد) والخطيب (٥ / ٣٩) وقال الحاكم : هذا حديث صحيح من حديث المصريين على شرط الشيخين ليس له علة ووافقه الذهبي.
وذكره الهيثمي في المجمع (١ / ١٦٣) وقال : رواه الطبراني في الكبير والأوسط ورجاله موثقون.
وله شاهد من حديث جابر أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (٧ / ١٩٨) و (٩ / ٩٢) ، (١٢ / ٣٦٩).
ويشهد له حديث ابن عباس أخرجه أبو يعلى (٤ / ٤٥٨) رقم (٢٥٨٥) والطبراني في الكبير كما في «مجمع الزوائد» (١ / ١٦٣) وقال : ورجال أبي يعلى رجال الصحيح.
وذكره الحافظ ابن حجر في «المطالب العالية» (٣٠٢٧) وعزاه إلى أبي يعلى وقال صحيح.
قال البغوي في شرح السنة : ١ / ٢٣٨. قيل : معنى الحديث : كما أنه ألجم لسانه عن قول الحقّ ، وإظهار العلم ، يعاقب في الآخرة بلجام من نار. وقال أبو سليمان الخطّابيّ : هذا في العلم الذي يلزمه تعليمه إيّاه ، ويتعين فرضه عليه ؛ كمن رأى كافرا يريد الإسلام ، يقول : علّموني ؛ ما الإسلام؟ وكمن يرى رجلا حديث عهد بالإسلام ، لا يحسن الصلاة ، وقد حضر وقتها ، يقول : علّموني كيف أصلّي ، وكمن جاء مستفتيا في حلال أو حرام ، يقول : أفتوني وأرشدوني ، فإنه يلزم في هذه الأمور ألّا يمنعوا الجواب ، فمن فعل ، كان آثما مستحقّا للوعيد ، وليس كذلك الأمر في نوافل العلم التي لا ضرورة بالناس إلى معرفتها ، والله أعلم. ـ