واعلم أن العالم ، إذا قصد كتمان العلم ، عصى ، وإن لم يقصده ، لم يلزمه التبليغ إذا عرف أنه مع غيره ، وأما من سئل ، فقد وجب عليه التبليغ ؛ لهذه الآية ، وللحديث.
واعلم أنه لا يجوز تعليم الكافر القرآن ، ولا العلم ؛ حتى يسلم ، ولا يجوز تعليم المبتدع الجدال ، والحجاج ، ليجادل به أهل الحق ، ولا يعلم الخصم على خصمه حجّة ، ليقتطع بها ماله ، ولا السّلطان تأويلا يتطرّق به على مكاره الرّعيّة ، ولا ينشر الرّخص من السّفهاء ، فيجعلوا ذلك طريقا إلى ارتكاب المحظورات ، وترك الواجبات ، ونحو ذلك. [وقال ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ : «لا تمنعوا الحكمة أهلها ؛ فتظلموهم ، ولا تضعوها في غير أهلها ، فتظلموها» (١)](٢).
وقال ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ : «لا تعلّقوا الدّرّ في أعناق الخنازير» (٣) يريد تعليم الفقه من ليس من أهله.
قوله تعالى : «ما أنزلنا» مفعول ب «يكتمون» ، و «أنزلنا» صلته ، وعائده محذوف ، أي : أنزلناه ، و «من البيّنات» [يجوز فيه ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنها حال من «ما» الموصولة ، فيتعلّق بمحذوف ، أي : كائنا من البيّنات.
الثاني : أن يتعلّق ب «أنزلنا» فيكون مفعولا به ، قاله أبو البقاء (٤) ، وفيه نظر من حيث إنّه إذا كان مفعولا به ، لم يتعد الفعل إلى ضمير ، وإذا لم يتعدّ](٥) إلى ضمير الموصول ، بقي الموصول بلا عائد.
الثالث : أن يكون حالا من الضمير العائد على الموصول ، والعامل فيه «أنزلنا» ؛ لأنه عامل في صاحبها.
فصل في المراد من «البيّنات»
والمراد من «البيّنات» ما أنزلنا على الأنبياء من الكتاب والوحي ، دون أدلّة العقل.
__________________
ـ وقال سفيان الثوري : ذاك إذا كتم سنّة ، وقال : لو لم يأتني أصحاب الحديث ، لأتيتهم في بيوتهم ، ولو أنّي أعلم أحدا يطلب الحديث بنيّة ، لأتيته في منزله حتى أحدّثه ، ومنهم من يقول : إنه علم الشهادة.
(١) ذكره القرطبي في «الجامع لأحكام القرآن» (٢ / ١٢٤) بصيغه التمريض.
(٢) سقط في ب.
(٣) أخرجه الخطيب في «تاريخ بغداد» (٩ / ٣٥٠) ومن طريقه ابن الجوزي في «الموضوعات» (٢٣٢) من حديث أنس.
وله شاهد عند ابن ماجه (١ / ٨١) رقم (٢٢٤).
وقال البوصيري في الزوائد (١ / ٩٤) رقم ٨٣ : وهذا إسناد ضعيف لضعف حفص بن سليمان البزار.
(٤) ينظر الإملاء لأبي البقاء : ١ / ٧١.
(٥) في ب : مفعول ثان ، أي : يتعلق ب «أنزلنا» ، فيكون مفعولا به لم يتعد الفعل.