وقوله «والهدى» يدخل فيه الدّلالة العقليّة ، والنّقليّة ؛ لما تقدّم في دليل قوله (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) [البقرة : ٣] أنّ الهدى عبارة عن الدلائل ، فيعمّ الكلّ. فإن قيل : فقد قال : (وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ) فعاد إلى الوجه الأوّل.
قلنا : الأوّل : هو التنزيل ، والثاني : ما يقتضيه التنزيل من الفوائد.
وهذه الآية الكريمة تدلّ على أن من أمكنه بيان أصول الدّين بالدلائل العقليّة لمن كان محتاجا إليها ، ثم تركها ، أو كتم شيئا من أحكام الشرع مع الحاجة إليه ، فقد لحقه هذا الوعيد.
قوله تعالى : (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ) متعلّق ب «يكتمون» ، ولا يتعلّق ب «أنزلنا» لفساد المعنى ؛ لأنّ الإنزال لم يكن بعد التّبيين ، وأمّا الكتمان فبعد التّبيين ، والضمير في [«بيّنّاه» يعود على «ما» الموصولة.
وقرأ الجمهور «بيّنّاه» ، وقرأ طلحة (١) بن مصرّف «بيّنه» على ضمير الغائب ، وهو التفات من التكلّم إلى الغيبة ، و «للنّاس» متعلّق بالفعل قبله.
وقوله : (فِي الْكِتابِ) يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه متعلّق بقوله : «بيّنّاه».
والثاني : أنه يتعلّق بمحذوف ؛ لأنّه حال من الضّمير المنصوب في](٢) «بيّنّاه» أي : بيّنّاه حال كونه مستقرّا كائنا في الكتاب ، والمراد بالكتاب جميع الكتب المنزلة.
فصل في حكم هذا «البيان»
قال بعضهم : هذا الإظهار فرض على الكفاية ، لأنّه إذا أظهره البعض ، صار بحيث يتمكنّ كلّ أحد من الوصول إليه ، فلم يبق مكتوما ، وإذا خرج عن حد الكتمان ، لم يجب على الباقين إظهاره مرةّ أخرى ، والله أعلم (٣).
فصل في الاحتجاج بقبول خبر الواحد
من الناس من يحتجّ بهذه الآيات على قبول خبر الواحد ، لأنّ إظهار هذه الأحكام واجب ، [ولو لم يجب العمل](٤) ، لم يكن إظهارها واجبا ، وتمام التقرير فيه قوله تعالى في آخر الآية : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا) [البقرة : ١٦٠] فحكم بوقوع البيان بخبرهم.
__________________
(١) ينظر الدر المصون : ١ / ٤١٧ ، البحر المحيط : ١ / ٦٣٣ ، المحرر الوجيز : ١ / ٢٣١.
(٢) سقط في ب.
(٣) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٤ / ١٤٨.
(٤) في ب : وإن لم يكن عملها.