فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون كل واحد كان منهيّا عن الكتمان ، ومأمورا بالبيان ؛ [ليكثر المخبرون](١) ؛ فيتواتر الخبر.
فالجواب : هذا غلط ؛ لأنّهم ما نهوا عن الكتمان ، إلّا وهم ممن يجوز عليهم الكتمان ، ومن جاز منهم التّواطؤ على الكتمان ، جاز منهم التواطؤ على الوضع والافتراء ، فلا يكون خبرهم موجبا للعلم ، والمراد من [الكتاب](٢) قيل : التّوراة والإنجيل ، وقيل : القرآن ، وقيل : أراد بالمنزل الأوّل ما في كتب المتقدّمين ، والثّاني ما في القرآن.
قوله تعالى : (أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ) يجوز في «أولئك» وجهان :
أحدهما : أن يكون مبتدأ ، و «يلعنهم» خبره ، والجملة خبر «إنّ الّذين».
والثاني : أن يكون بدلا من «الّذين» و «يلعنهم» الخبر ؛ لأن قوله تعالى : (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) يحتمل أن يكون معطوفا على ما قبله ، وهو (يَلْعَنُهُمُ اللهُ) وأن يكون مستأنفا ، وأتى بصلة «الّذين» فعلا مضارعا ، وكذلك بفعل اللّعنة ؛ دلالة على التجدّد والحدوث ، وأن هذا يتجدّد وقتا فوقتا ، وكرّرت اللعنة ؛ تأكيدا في ذمّهم. وفي قوله (يَلْعَنُهُمُ اللهُ) التفات ؛ إذ لو جرى على سنن الكلام ، لقال : «نلعنهم» ؛ لقوله : «أنزلنا» ، ولكن في إظهار هذا الاسم الشريف ما ليس في الضمير.
فصل في معنى اللعنة ، والمراد باللاعنين
اللّعنة في أصل اللّغة : هي الإبعاد ، وفي عرف الشّرع : الإبعاد من الثّواب ، واختلفوا في الّلاعنين ، من هم؟ فقيل : دوابّ الأرض وهوامّها ؛ فإنّها تقول : منعنا القطر بمعاصي بني آدم ، نقله مجاهد ، عن عكرمة (٣).
وقال : «اللّاعنون» ، ولم يقل «اللاعنات» ؛ لأنّه تعالى وصفها بصفة من يعقل ، فجمعها جمع من يعقل ؛ كقوله تعالى : (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) [يوسف : ٤] و (يا أَيُّهَا النَّمْلُ])(٤)(ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ) [النمل : ١٨] (وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا) [فصلت : ٢١].
و (وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس : ٤٠] وقيل : «كلّ شيء إلّا الإنس والجنّ» قاله ابن عبّاس (٥).
فإن قيل : كيف يصحّ اللعن من البهائم ، والجمادات؟
فالجواب من وجهين :
__________________
(١) في ب : ليكن للمخبر.
(٢) في ب : الكتب.
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٢٥٤) وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (١ / ٢٩٦) وزاد نسبته لسعيد بن منصور عن مجاهد.
(٤) في ب : وكآية النمل.
(٥) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٤ / ١٤٩).