لا بد له من مدبّر يدبّره ، ومقتدر يحفظه ، وهذه الآية الكريمة تدلّ على إباحة ركوب البحر وعلى إباحة الاكتساب ، والتّجارة ؛ لقوله : (بِما يَنْفَعُ النَّاسَ).
فصل في بيان الحالة المستثناة في ركوب البحر
البحر إذا أرتج ، لم يجز ركوبه لأحد بوجه من الوجوه في حين ارتجاجه ، ولا في الزّمن الذي الأغلب فيه عدم السّلامة ؛ وإنما يجوز عندهم ركوبه في زمن يكون الغالب فيه السلامة ـ [نقله القرطبيّ (١)](٢).
قوله تعالى : (وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ) [البقرة : ١٦٤] [«من»] الأولى معناها ابتداء الغاية ، أي : أنزل من جهة السماء ، وأما الثانية فتحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : أن تكون لبيان الجنس فإنّ المنزل من السّماء ماء وغيره.
والثاني : أن تكون للتّبعيض ؛ فإنّ المنزل منه بعض لا كلّ.
والثالث : أن تكون هي وما بعدها بدلا من قوله : (مِنَ السَّماءِ) بدل اشتمال بتكرير العامل ، وكلاهما أعني «من» الأولى ، و «من» الثانية متعلّقان ب «أنزل».
فإن قيل : كيف تعلّق حرفان متّحدان بعامل واحد؟
فالجواب : أنّ الممنوع من ذلك أن يتّحدا معنى من غير عطف ، ولا بدل ، لا تقول : أخذت من الدّراهم من الدّنانير ، وأمّا الآية الكريمة : فإنّ المحذور فيها منتف ، وذلك أنّك إن جعلت «من» الثانية للبيان ، أو للتبعيض ، فظاهر ؛ لاختلاف معناهما ؛ فإنّ الأولى للابتداء ، وإن جعلناها لابتداء الغاية ، فهي وما بعدها بدل ، والبدل يجوز ذلك فيه ، كما تقدّم ، ويجوز أن تتعلّق «من» الأولى بمحذوف على أنّها حال ؛ إمّا من الموصول نفسه ، وهو «ما» ، أو من ضميره المنصوب ب «أنزل» ، أي : وما أنزل الله حال كونه كائنا من السّماء.
فصل في أن إنزال الماء من السماء آية دالّة على وجود الصانع
قيل : أراد بالسّماء السّحاب ؛ فإنّ كلّ ما علاك يسمّى سماء ، ومنه قيل : سقف البيت سماؤه ، وقيل : أراد السّماء المعروفة ، وأنّه ينزل من السّماء إلى السّحاب ، ومن السحاب إلى الأرض ، وفي دلالة إنزال الماء من السّماء على وجود الصّانع : أنّ جسم الماء ، وما قام به من صفات الرّقّة ، والرّطوبة ، واللّطافة والعذوبة ، وجعله سببا لحياة الإنسان ، ولأكثر [منافعه](٣) ، وسببا لرزقه ، وكونه من السحاب معلّقا في جوّ السّماء ، وينزل عند التضرّع ، واحتياج الخلق إليه ـ مقدار المنفعة ، وسوقه إلى بلد ميّت ، فيحيي به
__________________
(١) ينظر تفسير القرطبي : ٢ / ١٣٢.
(٢) سقط في ب.
(٣) في ب : صنائعه.