الثاني : أن ينتصب على المصدريّة ، أي : (لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً).
فصل في تقرير هذا الجواب
في تقرير هذا الجواب وجوه :
الأوّل : أنه يقال للمقلّد : هل تعترف بأنّ شرط جواز تقليد الإنسان : أن يعلم كونه محقّا ، أم لا؟ فإن اعترفت بذلك ، لم تعلم جواز تقليده ، إلّا بعد أن تعلم كونه محقّا ، فكيف عرفت أنه محقّ ؛ فإن عرفته بتقليد آخر ، لزم التسلسل ، وإن عرفته بالعقل ، فذاك كاف ، ولا حاجة إلى التّقليد ، وإن قلت : ليس من شرط جواز تقليده : أن يعلم كونه محقّا ، فإذن : قد جوّزت تقليده ، وإن كان مبطلا ، فإذن : أنت على تقليدك لا تعلم أنّك محقّ ، أم مبطل (١).
وثانيها : هب أن ذلك المتقدّم كان عالما بهذا إلّا أنّا لو قدّرنا أن ذلك المتقدّم ما كان عالما بذلك الشّيء قطّ ، ولا اختار فيه ألبتة مذهبا ، فأنت ماذا كنت تعمل؟ فعلى تقدير أنك لا تعلم ذلك المتقدّم ، [ولا مذهبه ، كان لا بدّ من العدول إلى النّظر فكذا ههنا.
وثالثها : أنك إذا قلّدت من قبلك ، فذلك المتقدّم](٢) : إن كان عرفه بالتقليد ، لزم إما الدّور (٣) ،
__________________
(١) ينظر تفسير الفخر الرازي : ٥ / ٧.
(٢) سقط في ب.
(٣) الدّور ينقسم إلى : دور معي ، ودور سبقي :
فمثال الأول : توقف تعقّل الأبوة على تعقل البنوة ، وبالعكس ؛ فإن تعقل ذات الأب بوصف كونه أبا يستلزم تعقل ذات الابن بوصف كونه ابنا ، وكذلك العكس ، وهذا القسم ليس بمستحيل ؛ لأن الإضافات أمور اعتيارية لا وجود لها إلا في الأذهان.
إنما المستحيل هو القسم الثاني ؛ وهو الدور السبقي ـ وعرفوه : بأنه توقف وجود شيء على وجود شيء آخر ، قد توقف هذا الشيء الآخر عليه ، وينقسم إلى قسمين : دور مصرّح ، ودور مضمر ؛ فالمصرح : ما كان التوقف فيه بمرتبة ، أي : بواسطة واحدة ؛ كما إذا فرضنا أن زيدا أوجد عمرا ، وعمرا أوجد بكرا ، فإن عمرا توسط بين زيد أولا ، ونفسه ثانيا ، وسمّي مصرحا ؛ لظهور التوقف فيه بمجرد النظر ، والمضمر ما كان التوقف فيه بمرتبتين فأكثر ؛ كتوقف وجود زيد على عمرو ، وعمرو على بكر ، وبكر على زيد ، وسمّي مضمرا ؛ لخفائه بالنسبة للمصرح ، وهذا القسم الثاني بنوعيه مستحيل ؛ لوجوه منها : لو توقف وجود كل منهما على وجود الآخر ، للزم الجمع بين النقيضين ، لكن الجمع بين النقيضين محال ، فما أدى إليه ـ وهو توقف كل واحد على الآخر ـ محال ؛ فبطل الدّور.
وجه الملازمة : أنه من المسلم ضرورة أن المؤثر متقدم وسابق على الأثر ، والأثر متأخر في الوجود عن المؤثر.
فإذا قيل : زيد أوجد عمرا ، وعمرو أوجد زيدا ، كان كل منهما متقدّما لا متقدّما ، متأخّرا لا متأخّرا ، مؤثّرا لا مؤثّرا ، أثرا لا أثرا ، موجودا لا موجودا ، وإنما لزم ذلك ؛ لأن كلّا منهما باعتبار الدور يكون علّة ومعلولا ، ولا شك أن هذا جمع بين النقيضين وهو محال ، فما أدى إليه ـ وهو الدّور ـ محال. ـ