وإمّا التسلسل (١) ، وإن عرفه بالدليل ، وجب أن تطلب العلم بالدليل ، لا بالتّقليد ؛ لأنّك لو
__________________
ـ ومنها : لو توقّف كل منهما على الآخر ، لافتقر الشيء إلى نفسه ، لكن افتقار الشيء إلى نفسه محال ، فما أدى إليه ـ وهو الدّور ـ محال.
بيان الملازمة : أن لو توقف كل منهما على الآخر ، لكان المتوقّف مفتقرا إلى المتوقف عليه ، وعلى اعتبار الدّور يكون كل منهما مفتقرا إلى الآخر.
وهذا يؤدّي إلى افتقار الشيء لنفسه ؛ لأن المفتقر للشيء مفتقر إلى ذلك الشيء ، فلو افتقر بكر إلى أحمد ، وقد فرض أن أحمد مفتقر إلى بكر ـ لكان بكر مفتقرا إلى نفسه ، وافتقار الشيء إلى نفسه محال ؛ لأن الافتقار نسبة بين شيئين : أحدهما يقال له : منسوب ، والآخر : منسوب إليه ، فيجب أن يكون بينهما تغاير.
ونظرا لوضوح استحالة الدور ، قال بعض المتكلمين : إن استحالة الدور بديهية ، وما يذكر لإثبات استحالته ليس دليلا ، وإنما هو من باب التنبيه ، والضروري لا مانع من التنبيه عليه.
(١) التسلسل : هو أن يستند الممكن في وجوده إلى علة مؤثرة ، وتستند تلك العلة المؤثرة إلى علة أخرى مؤثرة ، وهلم جرّا إلى غير نهاية.
وقد ذكر علماء الكلام عدة أدلة على بطلان التسلسل ، نقتصر منها على برهان التطبيق ؛ وحاصله : أن نفرض من معلول ما بطريق التصاعد إلى ما لا نهاية له جملة ، ومما قبله بمتناه إلى غير متناه جملة ، فيحصل غير متناهيتين : إحداهما زائدة على الأخرى بقدر متناه ؛ مثلا : نفترض جملة من الآن إلى ما لا نهاية له في الأزل ؛ وهذه تسمى الآنية ، ثم نفرض من هذه السلسلة نفسها جملة أخرى ، تبتدىء من الطوفان إلى ما لا نهاية له في الأزل ؛ وهذه تسمى الطوفانية ، وبعد هذا الفرض نقابل أول فرد في السلسلة الطوفانية بأول فرد من السلسلة الآنية ، ونستمر في باقي الأفراد هكذا إلى الأزل ، فعند ذلك لا يخلو الحال عن واحد من أمرين : إما أن يتساويا ، وإما أن يتفاوتا ، فإن تساويا ، لزم مساواة الزائد للناقص ؛ وهو محال ، فما أدّى إليه ـ وهو التسلسل ـ محال ، وإن تفاوتا وانتهت الناقصة ، كان التفاوت بينهما بمقدار متناه ؛ لأنه من الآن إلى الطوفان ، والتفاوت بالتناهي يستلزم التناهي ؛ فلا تسلسل ؛ وذلك لأن الناقصة لما انقطعت ، كانت متناهية ، والزائدة لم تزد عليها إلا بذلك المقدار المبتدأ من المعلول الآخر إلى الطوفان ، وهو التناهي ؛ فيلزم التناهي لا محالة.
وملخص هذا الدليل : أنه عند تطبيق إحدى السلسلتين إلى الأخرى إن فرض التساوي كان محالا ، فما أدى إليه ـ وهو التسلسل ـ محال ، وإن فرض التفاوت ، فلا تسلسل أصلا ؛ لأن كلّا من السلسلتين قد انتهى ، وقد أوردوا على هذا الدليل نقضين : الأول على فرض المساواة ، والثاني على فرض التفاوت وحاصل الأول : لا نسلّم إمكان المساواة حتى تفرض ؛ لأن المتبادر من لفظ المساواة تماثل كل من السلسلتين في الحكم ، بمعنى : أن عدد أفراد إحدى السلسلتين يكون مساويا لعدد أفراد الأخرى ، وهذا لا يتأتى هنا ؛ لأن الموضوع أن السلسلة غير متناهية ، والحكم بالتماثل في الحكم فرع انحصار الأفراد ؛ فحينئذ لا يصح فرض التساوي.
ويجاب عن ذلك : أن التساوي لا يتوقف على الانحصار ؛ لأن معناه كون كل من السلسلتين اشتملت على ما اشتملت عليه الأخرى ، وهذا المعنى يتحقّق مع عدم التناهي.
وحاصل الثاني : سلّمنا أن هناك تفاوتا بين السلسلتين ، لكن لا نسلّم التناهي ؛ بدليل أنّا إذا فرضنا جملتين من الأعداد : إحداهما من الواحد إلى ما لا نهاية له ، والثانية من الثاني إلى ما لا نهاية له ، ثم طبّقنا إحداهما على الأخرى ، فجعلنا الواحد من الأولى بإزاء الواحد من الثانية وهكذا ، فإن إحداهما تكون أزيد من الأخرى ، ولا يلزم من ذلك التناهي ؛ لأن الأعداد لا تتناهى ، وكما يقال هذا في ـ