وقوله : (فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) فالمراد : العقل المكتسب هو الاستعانة بهذه القوى الثّلاثة ، فلمّا أعرضوا عنها ، فقد فقدوا العقل الكسبيّ ، ولهذا قيل : من فقد حسّا ، فقد فقد علما ، والله تعالى أعلم.
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ)(١٧٢)
قال بعض المفسّرين : إنّ الله تبارك وتعالى ذكر من أوّل السّورة إلى هنا دلائل للتّوحيد والنّبوّة ، واستقصى في الرّدّ على اليهود والنصارى ، ومن هنا : شرع في بيان الأحكام ، فقال : «كلوا» واعلم : أنّ الأكل قد يكون واجبا ، وذلك عند دفع الضرر عن النّفس ، وقد يكون مندوبا ، وذلك عند امتناع الضيف من الأكل ، إذا انفرد ، وللبساطة في الأكل ، إذا سوعد ، فهذا الأكل مندوب ، وقد يكون مباحا ، إذا خلا عن هذه العوارض ، فلا جرم كان مسمّى الأكل مباحا ، وإذا كان كذلك ، كان قوله في هذا الموضع «كلوا» لا يفيد الإيجاب ، والنّدب ، [بل الإباحة ، ومفعول «كلوا» محذوف ، أي : «كلوا رزقكم حال كونه بعض طيّبات ما رزقناكم» ويجوز في رأي الأخفش : أن تكون «من» زائدة في المفعول به ، أي : «كلوا طيّبات ما رزقناكم» (١).
فصل في بيان حقيقة الرّزق
استدلّوا على أنّ الرزق قد يكون حراما ؛ بقوله تعالى : (مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ)؛ فإنّ الطّيّب هو الحلال ، فلو كان كلّ رزق حلالا ؛ لكان قوله : «كلوا من](٢) طيّبات ما رزقناكم» معناه : من محلّلات ما أحللنا لكم ، فيكون تكرارا ، وهو خلاف الأصل ، وأجابوا عنه ؛ بأن الطّيّب في أصل اللّغة : عبارة عن المستلذّ المستطاب ، فلعلّ أقواما ظنّوا أنّ التوسّع في المطاعم ، والاستكثار من طيّباتها ممنوع منه ، فأباح الله تبارك وتعالى ذلك ؛ لقوله تعالى : «كلوا» من لذائذ ما أحللناه لكم ، فكان تخصيصه بالذّكر لهذا المعنى.
فصل في الوجوه التي وردت عليها كلمة «الطّيّب» في القرآن
قالوا : «والطّيّب» ورد في القرآن الكريم على أربعة أوجه :
أحدها : الطّيّبات بمعنى الحلال ؛ قال الله تعالى : (وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ) [النساء : ٢] ، أي : لا تتبدّلوا الحرام بالحلال.
الثاني : الطيّب بمعنى الطّاهر ؛ قال تبارك وتعالى : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) [النساء :
__________________
(١) زاد في ب : وهذا جائز ، ويجوز أن تكون «من» زائدة في المفعول به على رأي الأخفش ، أي : كلوا من طيبات ما رزقناكم.
(٢) سقط في ب.