أمّا ذبائح أهل الكتاب ، فتحلّ لنا ، لقوله تبارك وتعالى : (وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) [المائدة : ٥].
فصل في اختلافهم في اقتضاء تحريم الأعيان الإجمال
اختلفوا في التّحريم المضاف إلى الأعيان ، [هل يقتضي الإجمال؟
فقال الكرخيّ : إنّه يقتضي الإجمال ، لأنّ الأعيان](١) لا يمكن وصفها بالحل والحرمة ، فلا بد من صرفها إلى فعل من الأفعال فيها ، وهو غير محرّم ، فلا بدّ من صرف هذا التحريم إلى فعل خاصّ ، وليس بعض الأفعال أولى من بعض ؛ فوجب صيرورة الآية الكريمة مجملة.
وأمّا أكثر العلماء ، فقالوا : إنّها ليست بمجملة ، بل هذه اللفظة تفيد في العرف حرمة التصرّف ؛ قياسا على هذه الأجسام ؛ كما أنّ الذوات لا تملك ، وإنّما تملك التصرّفات فيها ، فإذا قيل : «فلان يملك جارية» ، فهم كلّ أحد أنه يملك (٢) التصرّف فيها ؛ فكذا هاهنا.
فإن قيل : لم لا يجوز تخصيص هذا التّحريم بالأكل ؛ لأنّه المتعارف من تحريم الميتة ، ولأنّه ورد عقيب قوله : (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) ، ولقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ في خبر شاة ميمونة : «إنّما حرّم من الميتة أكلها» (٣).
فالجواب عن الأوّل : لا نسلّم أن المتعارف من تحريم الميتة تحريم الأكل.
وعن الثّاني : بأنّ هذه الآية الكريمة مسألة بنفسها ؛ فلا يجب قصرها على ما تقدّم ، بل يجب إجراؤها على ظاهرها.
وعن الثّالث : أنّ ظاهر القرآن مقدّم على خبر الواحد ، هذا إذا لم نجوّز تخصيص القرآن بخبر الواحد ، فإن جوّزناه ، يمكن أن يجاب عنه ؛ بأن المسلمين ، إنّما يرجعون في معرفة وجوه الحرمة إلى هذه الآية ؛ فدلّ انعقاد إجماعهم على أنّها غير مختصّة ببيان حرمة الأكل ، وللسّائل أن يمنع هذا الإجماع ، والله تعالى أعلم.
فإن قيل : كلمة «إنّما» تفيد الحصر ، فيقتصر على تحريم باقي الآية الكريمة ، وقد ذكر في سورة المائدة هذه المحرمات ، وزاد فيها : المنخنقة ، والموقوذة ، والمتردّية ، والنّطيحة ، وما أكل السّبع ، فما معنى هذا الحصر؟
فالجواب : أنّ هذه الآية متروكة العمل بظاهرها ، وإن قلنا : إنّ كلمة «إنّما» لا تفيد الحصر ، فالإشكال زائل.
__________________
(١) سقط في ب.
(٢) في ب : كلما خدمته بملك.
(٣) أخرجه مالك في «الموطأ» (٤٩٨) والبخاري (٢ / ١٥٨) ، (٣ / ١٠٧) ومسلم كتاب الحيض ١٠٠ ، ١٠١ ، وأبو داود كتاب اللباس باب ٤ والنسائي (٧ / ١٧٢) وابن ماجه (٣٦١٠) وأحمد (١ / ٢٦١ ـ ٢٦٢ ، ٣٣٠) و (٦ / ٣٢٩) والدارمي (٢ / ٨٦) والبيهقي (١ / ١٥ ، ٢٣) والطبراني (١١ / ١٦٧) وابن أبي شيبة (٨ / ١٩١) وابن عبد البر في «التمهيد» (٤ / ١٥٤) والطحاوي في «المشكل» ، (١ / ١٩٧) وفي «شرح المعاني» (١ / ٤٧٢) والدار قطني (١ / ٤١) والحميدي (٣١٥ ، ٤٩١).