وأيضا : فإنّ المضطرّ كالملجأ إلى الفعل ، والملجأ لا يوصف بأنّه لا إثم عليه.
فالجواب : أنّا قد بينّا عند قوله (فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) [البقرة : ١٥٨] : أنّ نفي الإثم قدر مشترك بين الواجب ، والمندوب ، والمباح ، وأيضا : قوله تبارك وتعالى : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) : معناه : رفع الحرج والضّيق.
واعلم : أنّ هذا الجائع ، إن حصلت فيه شهوة الميتة ، ولم يحصل له فيه النّفرة الشّديدة ، فإنّه يصير ملجأ إلى تناول ما يسد به الرّمق ، وكما يصير ملجأ إلى الهرب من السّبع ، إذا أمكنه ذلك ، أمّا إذا حصلت النّفرة ، فإنّه بسبب تلك النّفرة ، يخرج عن أن يكون ملجأ ، ولزمه تناول الميتة على ما هو عليه من النّفار.
فإن قيل : قوله تبارك وتعالى : (فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) يناسب أن يقال بعده : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فإنّ الغفران ، إنّما يذكر عند حصول الإثم.
فالجواب من وجوه (١) :
أحدها : أن المقتضي للحرمة قائم في الميتة والدّم إلّا أنه زالت الحرمة ؛ لقيام المعارض ، فلمّا كان تناوله تناولا لما حصل فيه المقتضي للحرمة ، عبّر عنه بالمغفرة ، ثم ذكر بعده أنّه رحيم ، يعني : لأجل الرحمة عليكم ، أبحت لكم ذلك.
وثانيها : لعل المضطرّ يزيد على تناول قدر الحاجة.
وثالثها : أن الله تعالى ، لمّا بيّن هذه الأحكام ، عقّبها بقوله تعالى : «غفور» للعصاة ، إذا تابوا ، «رحيم» بالمطيعين المستمرّين على منهج الحكمة.
فصل في معنى المضطر
قال الشافعيّ ـ رضي الله عنه ـ : قوله تعالى : (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) معناه : أن كل من كان مضطرّا ، ولا يكون موصوفا بصفة البغي ، ولا بصفة العدوان ألبتّة ، فأكل ؛ فلا إثم عليه (٢).
وقال أبو حنيفة : معناه : «فمن اضطرّ ، فأكل غير باغ ، ولا عاد في الأكل ، فلا إثم عليه» فخصّص صفة البغي والعدوان بالأكل ، ويتفرّع على هذا الخلاف ، هل يترخّص العاصي بسفره ، أم لا؟
فقال الشافعيّ : لا يترخّص ؛ لأنّه يوصف بالعدوان ؛ فلا يندرج تحت الآية الكريمة (٣).
وقال أبو حنيفة : يترخّص ؛ لأنّه مضطرّ ، وغير باغ ، ولا عاد في الأكل ، فيندرج تحت الآية (٤).
__________________
(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ١٢.
(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٢٠.
(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٢٠.
(٤) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٢٠.