احتجّ الشافعي ـ رضي الله عنه ـ بأنّ الله تعالى حرم هذه الأشياء على الكلّ ، ثم أباحها للمضطرّ الموصوف بأنّه غير باغ ، ولا عاد ، والعاصي بسفره غير موصوف بهذه الصفة ؛ لأنّ قولنا : «فلان ليس بمتعدّ» نقيض لقولنا : «فلان متعدّ» ، وقولنا : «فلان متعدّ» يكفي في صدقه كونه متعدّيا لأمر من الأمور ، سواء كان في سفر ، أو أكل ، أو غيرهما ، وإذا صدق عليه اسم التعدّي بكونه متعدّيا في شيء من الأشياء فإن قولنا (غَيْرَ باغٍ ، وَلا عادٍ) لا يصدق إلّا إذا انتفى عنه صفة التعدّي من جميع الوجوه ، والعاصي بسفره متعدّ بسفره ، فلا يصدق عليه كونه (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) ، فيجب بقاؤه تحت التّحريم.
فإن قيل : يشكل بالعاصي في سفره ؛ فإنّه يترخّص مع أنّه موصوف بالعدوان.
والجواب : أنّه عامّ دخله التخصيص في هذه الصّورة ، ثم الفرق بينهما : أنّ الرخصة إعانة على السّفر ، فإذا كان السّفر معصية (١) ، كانت الرخصة إعانة على المعصية ، وإذا لم يكن السّفر معصية في نفسه ، لم تكن الإعانة عليه إعانة على المعصية ، فافترقا.
فإن قيل : قوله تعالى (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) شرط ، والشرط بمنزلة الاستثناء ؛ في أنه لا يستقلّ بنفسه ، فلا بدّ من تعلّقه بمذكور ، ولا مذكور إلّا الأكل ؛ لأنّا بيّنّا أنّ قوله تعالى : (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) لا يصدق عليه إلّا إذا انتفى عنه البغي والعدوان في كل الأمور ، فيدخل فيه نفي العدوان بالسّفر ضمنا (٢) ، ولا نقول : اللفظ يدلّ على التعيين (٣).
وأمّا تخصيصه بالأكل : فهو تخصيص من غير ضرورة ، ثمّ الذي يدلّ على أنّه لا يجوز صرفه إلى الأكل وجوه :
أحدها : أنّ قوله (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) حال من الاضطرار ؛ فلا بدّ وأن يكون وصف الاضطرار باقيا ، مع بقاء كون : (غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) حالا من الاضطرار ، فلو كان المراد بقوله : (غَيْرَ باغٍ ، وَلا عادٍ) كونه كذلك في الأكل ـ لاستحال أن يبقى وصف الاضطرار معه ؛ لأنّه حال الأكل ، لا يبقى معه حال الاضطرار.
ثانيها : أن الإنسان ينفر بطبعه عن تناول الميتة والدم ، وإذا كان كذلك لم يكن هناك حاجة إلى النهي ، فصرف هذا الشرط إلى التعدي في الأكل يخرج الكلام عن الفائدة.
وثالثها : أن كونه غير باغ ولا عاد يفيد نفي ماهية البغي ونفي ماهية العدوان ، وهذه الماهية إنما تنتفي عند انتفاء جميع أفرادها ، والعدوان في الأكل أحد أفراد هذه الماهية ،
__________________
(١) في ب : قصيرا.
(٢) في ب : في السفر فمقتضاه أنا.
(٣) في ب : وإذا كان كذلك ؛ وجب أن يكون متعلقا بالأكل الذي هو في حكم المذكور ، لا بالسفر الذي هو غير مذكور فيه ، فالجواب هذا ضعيف ؛ لأنا بيّنّا أن قوله تعالى : غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ.