التّهديد ؛ لأنّ [يوم القيامة هو اليوم الذي يكلّم الله تعالى فيه كلّ الخلائق بلا واسطة ، فيظهر](١) عند كلامه السّرور في أوليائه ، وضده في أعدائه ويتميّز أهل الجنّة بذلك ، من أهل النار. فلا جرم كان ذلك من أعظم الوعيد.
الثالث : أن قوله : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ) استعارة عن الغضب ؛ لأنّ عادة الملوك أنّهم عند الغضب يعرضون عن المغضوب عليه ، ولا يكلّمونه ؛ كما أنّهم عند الرضا يقبلون عليه بالوجه والحديث.
وقوله (وَلا يُزَكِّيهِمْ)(٢) فيه وجوه :
الأوّل : لا ينسبهم إلى التّزكية ، ولا يثني عليهم.
الثاني : لا يقبل أعمالهم ؛ كما يقبل أعمال الأولياء.
الثالث : لا ينزلهم منازل الأولياء.
وقيل : لا يصلح أعمالهم الخبيثة ، فيطهرهم.
قوله «ولهم عذاب أليم» ، اعلم : أن الفعيل قد يكون بمعنى المفعول ؛ كالجريح والقتيل ، بمعنى المجروح والمقتول ، وقد يكون بمعنى «المفعل» ؛ كالبصير بمعنى المبصر والأليم بمعنى المؤلم.
واعلم أنّ العبرة بعموم اللّفظ ، لا بخصوص السّبب ، فالآية الكريمة وإن نزلت في اليهود ، لكنّها عامّة في حقّ كلّ من كتم شيئا من باب الدّين.
قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (١٧٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ)(١٧٦)
اعلم أنّ أحسن الأشياء في الدّنيا الاهتداء والعلم وأقبح الأشياء الضّلال والجهل فلمّا تركوا الهدى في الدّنيا ، ورضوا بالضّلال والجهل ، فلا شكّ أنّهم في نهاية الخسارة في الدنيا ، وأمّا في الآخرة ، فأحسن (٣) الأشياء المغفرة ، وأخسرها العذاب ، فلمّا صرفوا المغفرة ، ورضوا بالعذاب ، فلا جرم : أنهم في نهاية الخسارة ، ومن كانت هذه صفته ، فهو أعظم النّاس خسارة في الدّنيا والآخرة.
قوله (فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) في «ما» هذه خمسة أقوال :
أحدها : وهو قول سيبويه (٤) ، والجمهور : أنّها نكرة تامّة غير موصولة ، ولا
__________________
(١) سقط في ب.
(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٢٤.
(٣) في ب : فأخسروا.
(٤) ينظر : الكتاب لسيبويه ١ / ٣٧.