وعن السّادس : أن تغير البناء وإن كان على خلاف الأصل ، لكنّه يجب المصير إليه ؛ لدلالة العمل بما ذكر ، وذكروا وجوها أخر مخالفة للنّحو.
قوله : «قبل» منصوب على الظّرف المكانيّ بقوله : «تولّوا» ، وحقيقة قولك : «زيد قبلك» أي في المكان الذّي يقابلك فيه وقد يتّسع فيه ، فيكون بمعنى «عند» ؛ نحو قولك : «قبل زيد دين» ، أي «عنده دين».
فصل في اختلافهم في عموم هذا الخطاب وخصوصه
اختلفوا : هل هذا الخطاب عامّ ، أو خاصّ؟ فقال قتادة ، ومقاتل بن حيّان : لمّا شددوا أهل الكتاب بالثبات على التوجّه نحو بيت المقدس ، قال تعالى : (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا) هذه الطريقة ، (لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ).
وقال مجاهد وعطاء والضّحّاك ـ رضي الله عنهم ـ : المراد مخاطبة المؤمنين ، لمّا ظنّوا هذا الكلام.
وقال بعضهم : هو خطاب للكلّ ؛ لأنّه لما حوّلت القبلة ، حصل للمؤمنين الاغتباط بهذه القبلة ، وحصل منهم التشديد في هذه القبلة ؛ حتّى ظنّوا أنّه الغرض الأكبر في الدّين ، فبعثهم الله تعالى بهذا الخطاب استيفاء جميع الطاعات والعبادات ، وليس البرّ بأن تولّوا وجوهكم شرقا وغربا ، وإنّما البرّ كيت ، وكيت ، وكيت ، فكأنّه تبارك وتعالى قال : ليس البرّ المطلوب هو أمر القبلة ، بل البرّ المطلوب هذه الخصال الّتي عدّدتّها.
فصل في المشار إليه بالضمير
قال القفّال (١) : والذي عندنا أنّه إشارة إلى السّفهاء الذين طعنوا في المسلمين ، وقالوا : ما ولّاهم عن قبلتهم الّتي كانوا عليها؟ مع أنّ اليهود كانوا يستقبلون المغرب ، والنّصارى كانوا يستقبلون المشرق ، فقال الله تعالى : إنّ صفة البرّ لا تحصل باستقبال المشرق والمغرب ، بل البرّ يحصل بأمور.
منها : الإيمان بالله تعالى ، وأهل الكتاب أخلّوا بذلك ، فأمّا اليهود ، فلقولهم بالتّجسيم ، ولقولهم بأنّ عزيرا ابن الله ، وأمّا النصارى ؛ فلقولهم : المسيح ابن الله ، واليهود وصفوا الله تعالى بالبخل.
وثانيها : الإيمان باليوم الآخر ، واليهود أخلّوا بذلك ، وقالوا : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [البقرة : ٨٠] والنصارى أنكروا المعاد الجسمانيّ ، وكلّ ذلك تكذيب باليوم الآخر.
__________________
(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٣٢.