٩١٥ ـ وإنّما هي إقبال وإدبار (١)
أي : مقبلة ومدبرة والعمل لكل خير هو بر ، وقيل : البر : كل عمل خير يفضي بصاحبه إلى الجنة ، قال تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) [الإنسان : ١٣].
ووحّد الكتاب لفظا ، والمراد به الجمع ؛ وحسّن ذلك كونه مصدرا في الأصل ، أو أراد به الجنس ، أو أراد به القرآن ، فإنّ من آمن به ، فقد آمن بكل الكتب ، فإنه شاهد لها بالصّحّة.
فصل فيما اعتبر الله تعالى في تحقيق البرّ
اعلم أنّ الله تعالى اعتبر في تحقيق البرّ أمورا :
أحدها : الإيمان بخمسة أشياء :
أولها : الإيمان بالله ؛ ولا يحصل ذلك إلّا بالعلم بذاته المخصوصة ، وبما يجب ، ويجوز ، ويستحيل عليه ، ولا يحصل العلم بهذه الأمور إلّا بالعلم بالدلائل الدالّة عليها ، فيدخل فيه العلم بحدوث (٢) العالم ، والعلم بالأصول التي يتفرّع عليها حدوث العالم ، ويدخل فيه العلم
__________________
(١) تقدم برقم ٩١٢.
(٢) ذهب فريق من المتكلمين في إثبات الصانع ـ تعالى ـ بدلالة الحوادث على وجود محدث صانع ، وذهب المتقدمون منهم إلى إثباته ـ تعالى ـ بدلالة إمكان الممكنات ، على مرجّح لأحد طرفي الإمكان مع اتفاقهم جميعا على أن العالم هو الدليل على وجود الصّانع ، ولكنهم اختلفوا في جهة الدلالة : فمنهم من قال : هي حدوثه ، ومنهم من قال : هي إمكانه ، ومنهم من قال : هما معا ، ويرجع هذا الخلاف إلى اختلافهم في علة احتياج العالم إلى الصانع : فاختار البيضاوي ، والفخر الرازي ، وجماعة أنها الإمكان ، ولا مدخل للحدوث فيها ـ وقال كثير من المتكلمين : هي الحدوث ، وقال فريق منهم : هي الإمكان والحدوث ، وقال فريق آخر هي الإمكان بشرط الحدوث ، والحقّ أنها كلها موصلة إلى العلم بالصانع ـ سبحانه وتعالى ـ.
وقد حقّق علماء الكلام الفرق بين الإمكان والحدوث : بأن العلم بحدوث العالم يتأخّر في طريق الاستدلال بالإمكان المجرد عن إثبات الصانع ، وأما في الاستدلال بحدوث العالم يسبق العلم به العلم بالصانع ، وبيان ذلك : أنّا إذا قلنا : العالم ممكن بذاته من حيث هو هو قابل للوجود والعدم ، فالوجود ليس له من ذاته ، وكل ما ليس له وجود من ذاته ، فالوجود له من غيره ، ثم ذلك الغير لا بدّ أن يكون واجب الوجود لذاته ، وإلا لافتقر إلى ما افتقر العالم إليه ، ودار أو تسلسل ، وكل منهما محال ؛ فثبت العلم بوجود مؤثر لذاته ، فقد ثبت من هذا العلم بالصانع ، لكن مع احتمال كونه صانعا باللزوم الذاتي ، فلا يكون العالم حادثا ، بل قديما كقول الفلاسفة ، واحتمال كونه صانعا بالاختيار ، فيكون العالم حادثا ، فنحتاج إلى دليل آخر لإثبات حدوث العالم ، بعد الفراغ من إثبات وجود الصانع الذي اتفقت أنت والفيلسوف على إثباته ، وانفردت بهذا المطلب الثاني ؛ وهو إثبات حدوث العالم ، فلا بدّ من إبطال كونه صانعا بالعلّة أو بالطبع ، حتى يثبت حدوث العالم ، فنقول :
صانع العالم إمّا أن يكون أوجبه لذاته ، أو اقتضاه بطبعه إذ أوجده باختياره ، وجهاته منحصرة في هذه الثلاث ، لا جائز أن يكون المؤثر لهذه الممكنات موجبا لها بذاته ؛ كالعلّة ، ولا مقتضيا لها بطبعه ، لأن ما يؤثّر كذلك لا يختلف مقتضاه ؛ لاستحالة الاختلاف في معلول العلة الواحدة ، ومطبوع الطبيعة الواحدة ، والله سبحانه وتعالى قد خصّص مثلا عن مثل ، فتعيّن كونه موجدا بالاختيار ، وكل ما وجد ـ