فإن قيل : إذا صحّ هذا التأويل ، فما الحكمة في هذا التّرتيب؟!
فالجواب من وجوه :
أحدها : أنه تبارك وتعالى قدّم الأولى فالأولى ؛ لأنّ الفقير القريب أولى بالصّدقة من غيره ، لأنّه يجمع فيه بين الصلة ، والصّدقة ، ولأن القرابة من أوكد الوجوه في صرف المال إليه ، ولذلك يستحقّ بها الإرث ، ويحجر على ذي المال بسببه في الوصيّة ، حتى لا يتمكّن من الوصية ، إلا في الثّلث ، ولذلك كانت الوصيّة للأقارب من الواجبات ؛ لقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة : ١٨٠].
وإن كانت نسخت عند بعضهم ؛ فلهذه الوجوه ، قدّم ذوي القربى ، ثم أتبعه باليتامى ؛ لأنّ الصغير الفقير الذي لا والد له ، ولا كاسب ، فهو منقطع الحيلة من كل الوجوه ، ثم أتبعهم بالمساكين ؛ لأنّ الحاجة قد تشتدّ بهم ، ثم ذكر السّائلين ، وفي الرقاب ؛ لأن حاجتهما دون حاجة من تقدّم.
وثانيها : أن علم المرء بشدّة حاجة قريبه (١) أقوى ، ثم بحاجة الأيتام ، ثم بحاجة المساكين ثم (٢) على هذا النّسق.
وثالثها : أن ذا القربى مسكين ، وله صفة زائدة تخصّه ؛ لأن شدّة حاجته تغمّ صاحب المال ، وتؤذي قلبه ، ودفع الضّرر عن النّفس مقدّم على دفع الضرر عن الغير ؛ فلذلك بدأ الله بذي القربى ، ثم باليتامى ؛ لأن الغمّ الحاصل بسبب عجز الصّغار عن الطّعام والشّراب أشدّ من الغمّ الحاصل بسبب عجز الكبار عن تحصيلهما ، ثم المساكين ؛ لأنّ الغمّ الحاصل بسببهم أخفّ من الغم الحاصل بسبب الصّغار.
وأمّا ابن السّبيل ، فقد يكون غنيّا ، وقد تشتدّ حاجته في الوقت ، والسّائل قد يكون غنيّا ، ويظهر شدّة الحاجة ، وأخّر المكاتب ؛ لأنّ إزالة الرق ليست في محلّ الحاجة الشّديدة.
القول الثاني : أنّ المراد بإيتاء المال : ما روي أنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ عند ذكره الإبل ، قال : «إنّ فيها حقّا ؛ وهو إطراق فحلها ، وإعارة دلوها» ، وهذا بعيد ؛ لأن الحاجة إلى إطراق الفحل أمر لا يختصّ به ابن السّبيل ، والسائل والمكاتب.
القول الثالث : أن إيتاء المال إلى هؤلاء كان واجبا ، ثم نسخ بالزّكاة ، وهذا أيضا ضعيف ، لأنه تبارك وتعالى جمع في هذه الآية الكريمة بين هذا الإيتاء ، وبين الزكاة.
وقال بعضهم : المراد صدقة التطوّع.
فصل في الوجوه الإعرابية لقوله «ذوي»
قوله «ذوي» فيه وجهان :
__________________
(١) في ب : شدة حاجته لقريبه.
(٢) في ب : السائلين تعم.