فصل في الأحكام المستفادة من الآية
قال القرطبيّ (١) : تضمّنت هذه الآية الكريمة ستّ عشرة قاعدة من أمّهات الأحكام :
الإيمان بالله وبأسمائه ، وصفاته ، والحشر ، والنشر ، والصراط ، والحوض ، والشّفاعة ، والجنة ، والنار ، والملائكة ، والرّسل ، والكتب المنزلة ، وأنّها حقّ من عند الله ؛ كما تقدم ، والنّبيين ، وإنفاق المال فيما يعنّ له من الواجب ، والمندوب ، وإيصال القرابة ، وترك قطعهم ، وتفقّد اليتيم ، وعدم إهماله المساكين كذلك ، ومراعاة ابن السبيل ، وهو : المسافر المنقطع به ، وقيل : الضعيف ، والسّؤّال ، وفكّ الرقاب ، والمحافظة على الصّلوات ، وإيتاء الزّكاة ، والوفاء بالعهود ، والصّبر في الشّدائد ، وكلّ قاعدة من هذه القواعد تحتاج إلى كتاب.
وقوله (فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ) : قال ابن عبّاس : يريد الفقر بقوله : «البأساء» ، والمرض بقوله : «والضّرّاء» ، وفيهما قولان :
أحدهما : وهو المشهور أنّهما اسمان مشتقّان من البؤس والضّرّ وألفهما للتأنيث ، فهما اسمان على «فعلاء» ولا «أفعل» لهما ؛ لأنّهما ليسا بنعتين.
والثاني : أنهما وصفان قائمان مقام موصوف ، والبؤس ، والبأساء : الفقر ؛ يقال : بئس يبأس ، إذا افتقر ؛ قال الشاعر : [الطويل]
٩١٧ ـ ولم يك في بؤس إذا بات ليلة |
|
يناغي غزالا ساجي الطّرف أكحلا (٢) |
قوله : (وَحِينَ الْبَأْسِ) منصوب ب الصّابرين ، [أي] : الذين صبروا وقت الشّدّة ، والبأس : شدّة القتال خاصّة ، بؤس الرّجل ، أي : شجع. قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : يريد القتال في سبيل الله ، وأصل البأس في اللغة : الشّدّة ؛ يقال : لا بأس عليك في هذا ، أي : لا شدّة و (بِعَذابٍ بَئِيسٍ) [الأعراف : ١٦٥] أي : شديد ، ثم يسمّى الحرب بأسا ، لما فيه من الشّدّة ، والعذاب يسمّى بأسا ؛ لشدّته ، قال تبارك وتعالى : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) [غافر : ٨٤] (فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا) [الأنبياء : ١٢] (فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللهِ إِنْ جاءَنا) [غافر : ٢٩].
قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) مبتدأ وخبر ، وأتى بخبر «أولئك» الأولى موصولا بصلة ، وهي فعل ماض ؛ لتحقّق اتصافهم به ، وأن ذلك قد وقع منهم ، واستقرّ ، وأتى بخبر الثانية بموصول صلته اسم فاعل ، ليدلّ على الثبوت ، وأنه ليس متجدّدا ، بل صار كالسّجيّة لهم ، وأيضا : فلو أتى به فعلا ماضيا ، لما حسن وقوعه فاصلة.
قال الواحديّ (٣) ـ رحمهالله ـ : إن الواوات في الأوصاف في هذه الآية للجمع ،
__________________
(١) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ١٦٢.
(٢) ينظر : البحر المحيط ١ / ٦٧١ والدر المصون ١ / ٤٥٠.
(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٤٠.