فمن شرائط البرّ ، وتمام شرط البارّ : أن تجتمع فيه هذه الأوصاف ، ومن قام بواحد منها ، لم يستحقّ الوصف بالبرّ ؛ فلا ينبغي أن يظن الإنسان أن الموفي بعهده أن يكون من جملة من قام بالبرّ ، وكذا الصابر في البأساء ، بل لا يكون قائما بالبرّ إلّا عند استجماع هذه الخصال ، ولذلك قال بعضهم (١) : هذه الصفة خاصّة للأنبياء ؛ لأن غيرهم لا تجتمع فيه هذه الأوصاف كلّها.
وقال آخرون : هي عامّة في جميع المؤمنين (٢) ، والله أعلم.
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ)(١٧٨)
قوله «في القتلى» ، أي : بسبب القتلى و «في» تكون للسّببية ؛ كقوله ـ عليهالسلام ـ «إنّ امرأة دخلت النّار في هرّة» ، أي : بسببها ، و «فعلى» يطّرد أن يكون جمعا لفعيل ، بمعنى مفعول ، وقد تقدّم شيء من هذا عند قوله (وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى) [البقرة : ٨٥].
فصل في بيان سبب النزول
في سبب النزول وجوه :
أحدها : إزالة الأحكام التي كانت ثابتة قبل البعثة ، وذلك أن اليهود كانوا يوجبون القتل فقط ، والنصارى كانوا يوجبون العفو فقط ، والعرب تارة كانوا يوجبون القتل ، وتازة يوجبون الدّية ، لكنّهم كانوا يظهرون التعدّي ، فأما القتل ؛ فكانوا إذا وقع القتل بين قبيلتين : أحدهما أشرف من الأخرى ، فكان الأشراف يقولون : «لنقتلنّ بالعبد منّا الحرّ منهم ، وبالمرأة منّا الرّجل منهم ، وبالرّجل منّا الرّجلين منهم» وربما زادوا على ذلك ، وينكحون نساءهم بغير مهور ؛ قاله سعيد بن جبير (٣).
يروى أن واحدا من الأشراف قتل له ولد ، فاجتمع أقارب القاتل عند والد المقتول ، فقالوا له : ما تريد؟ فقال : إحدى ثلاث ، فقالوا : ما هي؟ قال : إما تحيون لي ولدي ، أو تملئون داري من نجوم السّماء ، أو تدفعون إليّ جملة قومكم ؛ حتّى أقتلهم ، ثم لا أرى أنّي أخذت عوضا(٤).
وأمّا أمر الدّية ، فربّما جعلوا دية الشّريف أضعاف دية الخسيس ، فلما بعث الله
__________________
(١) ينظر : تفسير الرازي ٥ / ٤٠.
(٢) ينظر : تفسير الرازي ٥ / ٤٠.
(٣) أخرجه بلفظ قريب منه ابن أبي حاتم في «تفسيره» عن سعيد بن جبير كما في «الدر المنثور» للسيوطي (١ / ٣١٦).
(٤) ذكره الفخر الرازي في «التفسير الكبير» (٥ / ٤٠).