والجواب عن الأول من وجهين :
أحدهما : أن المراد إيجاب إقامة القصاص على الإمام ، ومن يجري مجراه ؛ لأنّ متى حصلت شرائط وجوب القود ، فإنّه لا يحلّ للإمام أن يترك القود من المؤمنين ، والتقدير : يا أيها الأئمّة ، كتب عليكم استيفاء القصاص ، إن أراد وليّ الدّم استيفاءه.
والثاني : أنه خطاب مع القاتل ، والتقدير : يا أيها القاتلون ، كتب عليكم تسليم النفس عند مطالبة الوليّ بالقصاص ؛ وذلك لأنّ القاتل ليس له أن يمتنع ؛ خلاف الزّاني والسارق ، فإنّ لهما الهرب من الحدود ، ولهما أيضا أن يستترا بستر الله ، فلا يعرفان ، والفرق بينهما : أن ذلك حقّ لآدميّ.
والجواب عن الثاني : أن ظاهر الآية يقتضي التّسوية في القتل ، والتّسوية في القتل صفة القتل ، وإيجاب الصفة يقتضي إيجاب الذّات ، فكانت الآية تفيد إيجاب القتل من هذا الوجه.
قوله «الحرّ بالحرّ» مبتدأ وخبر ، والتقدير : الحرّ مأخوذ بالحرّ ، أو مقتول بالحرّ ، فتقدّر كونا خاصّا ، حذف ؛ لدلالة الكلام عليه ؛ فإنّ الباء فيه للسّبب ، ولا يجوز أن تقدّر كونا مطلقا ؛ إذ لا فائدة فيه ، لو قلت : «الحرّ كائن بالحرّ» إلّا أن تقدّر مضافا ، أي : قتل الحرّ كائن بالحرّ ، وأجاز أبو حيان : أن يكون الحرّ مرفوعا بفعل محذوف ، تقديره : «يقتل الحرّ بالحرّ» ؛ يدلّ عليه قوله تعالى : (الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى؛) فإن القصاص يشعر بهذا الفعل المقدّر ، وفيه بعد ، والحر وصف ، و «فعل» الوصف ، جمعه على «أفعال» لا يقاس ، قالوا : حرّ وأحرار ، ومرّ وأمرار ، والمؤنّثة حرّة ، وجمعها على «حرائر» محفوظ أيضا ، يقال : «حرّ الغلام يحرّ حرّيّة».
فصل في اختلافهم في اقتضاء الآية الحصر
قوله (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) فيه قولان :
الأول : أنّها تقتضي ألّا يكون القصاص مشروعا إلّا بين الحرّين ، وبين العبدين ، وبين الأنثين.
واحتجّ عليه بوجوه :
الأول : أن الألف واللام في «الحرّ» تفيد العموم ؛ فقوله : «الحرّ بالحرّ» يفيد أن يقتل كلّ حرّ بالحر ، فلو كان قتل حرّ بعبد مشروعا ، لكان ذلك الحرّ مقتولا بغير حرّ ، وذلك ينافي إيجاب أن يكون كلّ حرّ مقتولا بالحرّ.
الثاني : أن «الباء» من حروف الجرّ ، فتتعلّق بفعل ، فيكون التقدير : يقتل بالحر ، والمبتدأ لا يكون أعمّ من الخبر ، بل إمّا مساويا له ، أو أخصّ منه ، وعلى هذا التقدير ، فهذا يقتضي أن يكون كلّ حرّ مقتولا بالحرّ ، وذلك ينافي كلّ حرّ مقتولا بالعبد.