الثالث : أنه تبارك وتعالى أوجب في أول الآية الكريمة رعاية المماثلة ، وهو قوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى ..) ، فلما ذكر عقيبه قوله : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ ، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ) ، دلّ على أن رعاية التّسوية في الحرّيّة والعبوديّة معتبرة ؛ لأن قوله : «الحرّ بالحرّ والعبد بالعبد» خرج مخرج التّفسير لقوله (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى) ، فإيجاب القصاص على الحرّ بقتل العبد إهمال لرعاية التّسوية ؛ فوجب ألّا يكون مشروعا ؛ ويؤيّد ما ذكرنا قوله صلىاللهعليهوسلم : «لا يقتل حرّ بعبد ، ولا مؤمن بكافر» (١) ، فإن أخذ الخصم بقوله تعالى : (وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) ، فالجواب من وجهين :
أحدهما : هذه الآية شرع من قبلنا وليس شرعا لنا ، والآية التي نحن فيها شرعنا ، فهذا أقوى في الدّلالة.
والثاني : أن هذه الآية الكريمة مشتملة على أحكام النّفوس على التفصيل والتّخصيص ، وتلك عامّة ، والخاصّ متقدّم على العامّ ، ثم قال أصحاب هذا القول إنّ ظاهر الآية يقتضي ألّا يقتل العبد بالحرّ ولا تقتل الأنثى بالذّكر ، إلّا إذا خالفنا هذا الظاهر ؛ للإجماع وللمعنى المستنبط من نسق هذه الآية الكريمة ، وذلك المعنى غير موجود في الحرّ بالعبد ؛ فوجب أن يبقى هاهنا على ظاهر اللّفظ ، أمّا الإجماع فظاهر ، وأمّا المعنى المستنبط ، فهو أنه لمّا قتل العبد بالعبد ، فلأن يقتل بالحرّ الذي هو فوقه أولى ، بخلاف الحر ، فإنّه لمّا قتل بالحرّ ، لا يلزم : أن يقتل بالعبد الّذي هو دونه ، وكذا القول في قتل الأنثى بالذّكر ، وأمّا قتل الذّكر بالأنثى ، فليس فيه إلّا الإجماع.
القول الثاني : أنّ قوله تعالى : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) لا يفيد الحصر ، بل يفيد شرع القصاص بين الذّكور من غير أن يكون فيه دلالة على سائر الأقسام ؛ واحتجّوا عليه بوجهين :
الأول : أنّ قوله : (وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) يقتضي قصاص المرأة الحرّة بالمرأة الرقيقة ، فلو كان قوله (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ ..) مانعا من ذلك ، لوقع التناقض.
الثاني : أنّ قوله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى ..) جملة تامّة مستقلّة بنفسها.
وقوله : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ) تخصيص لبعض الجزئيّات بالذّكر ، وتخصيص بعض الجزئيّات بالذّكر لا يمنع من ثبوت الحكم ؛ كسائر الجزئيّات ، وذلك التخصيص يمكن أن يكون لفائدة سوى نفي الحكم عن سائر الصّور ، ثم اختلفوا في تلك الفائدة ، فذكروا فيها وجهين :
__________________
(١) أخرجه أبو داود (٤ / ٦٦٦ ـ ٦٦٧) كتاب الدّيات : باب إيقاد المسلم بالكافر حديث (٤٥٣٠) والنسائي (٨ / ١٩) كتاب القسامة : باب القود بين الأحرار والحاكم (٢ / ١٤١) وأحمد (١ / ١١٩) من حديث علي بن أبي طالب بلفظ : المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ويرد عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم ولا يقتل مسلم بكافر ولا ذو عهد في عهده.