وهذا ضعيف ؛ لتقدمه على عامله الموصول ، ولأنه لا يتبادر إلى الذّهن.
قال أبو حيّان (١) : والأولى عندي : أن يكون مصدرا من معنى «كتب» ؛ لأن معنى «كتب الوصيّة» ، أي : حقّت ووجبت ، فهو مصدر على غير الصدر ، نحو : «قعدت جلوسا».
فإن قيل : ظاهر هذا التّكليف يقتضي تخصيص هذا التّكليف بالمتّقين ، دون غيرهم؟ فالجواب أن المراد بقوله تعالى : (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) أنّه لازم لمن آثر التقوى ، وتحرّاه ، وجعله طريقة له ومذهبا ، فيدخل الكل فيه.
وأيضا : فإن الآية الكريمة وإن دلّت على وجوب هذا المعنى على المتقين ، فالإجماع دلّ على أنّ الواجبات والتّكاليف عامّة في حقّ المتّقين وغيرهم ، فبهذا الطّريق يدخل الكلّ تحت هذا التّكليف.
فصل في اختلافهم في تغيير المدبر وصيته
قال القرطبيّ (٢) : أجمعوا على أن للإنسان أن يغيّر وصيّته ، ويرجع فيما شاء منها ، إلّا أنهم اختلفوا في المدبر (٣).
فقال مالك : الأمر المجمع عليه عندنا : أن الموصي ، إذا أوصى في صحّته ، أو مرضه بوصيّة ، فيها عتق رقيق ، فإنه يغيّر من ذلك ما بدا له ، ويصنع من ذلك ما يشاء حتى يموت ، وإن أحبّ أن يطرح تلك الوصيّة ، ويسقطها فعل ، إلّا أن يدبّر ، فإن دبّر مملوكا ، فلا سبيل له إلى تغيير ما دبّر.
قال أبو الفرج المالكيّ : المدبّر في القياس كالمعتق إلى شهر ؛ لأنه أجل آت لا محالة ، وأجمعوا على أنّه لا يرجع في اليمين بالعتق ، والعتق إلى أجل ؛ فكذلك المدبّر ، وبه قال أبو حنيفة ، وقال الإمام الشافعيّ وإسحاق وأحمد : هو وصيّة.
فصل
اختلفوا في الرّجل ، يقول لعبده : «أنت حرّ بعد موتي» ، وأراد الوصيّة ، فله الرّجوع عند مالك ، وإن قال : «فلان مدبّر بعد موتي» لم يكن له الرّجوع فيه ، فإن أراد التدبير لقوله الأول ، لم يرجع أيضا عند أكثر أصحاب مالك ، وأما الشّافعيّ ، وأحمد ، وإسحاق ،
__________________
(١) ينظر : البحر المحيط ٢ / ٢٦.
(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ١٧٥.
(٣) والتدبير لغة : الإعتاق عن دبر وهو ما بعد الموت ، وشرعا : تعليق العتق بالموت ، والمطلق منه : ما علّقه بمطلق موته ، والمقيد : أن يعلق بصفة على خطر الوجود وأيضا التدبير : استعمال الرأي بفعل شاق ، وقيل : النظر في العواقب بمعرفة الخير.
ينظر : قواعد الفقه ص ٢٢٥.