والجواب الثاني : أن المراد منه : أنّ ابتداء نزوله ليلة القدر من شهر رمضان ، وهو قول محمّد بن إسحاق (١) ؛ وذلك لأنّ مبادىء الملل والدّول هي الّتي يؤرّخ بها ؛ لكونها أشرف الأوقات ، ولأنّها أيضا أوقات مضبوطة.
واعلم أن الجواب الأول حمل للكلام على الحقيقة ، وفي الثاني : لا بدّ من حمله على المجاز ؛ لأنّه حمل للقرآن على بعض أجزائه.
روي أن [عبد الله بن] عمر بن الخطّاب ـ رضي الله عنه ـ استدلّ بهذه الآية الكريمة ، وبقوله (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر : ١] على أن ليلة القدر لا تكون إلّا في رمضان ، وذلك لأنّ ليلة القدر ، إذا كانت في رمضان ، كان إنزاله في ليلة القدر إنزالا في رمضان ، وهذا كمن يقول : «لقيت فلانا في هذا الشّهر» ، فيقال له : في أيّ يوم منه؟ فيقول : في يوم كذا ، فيكون ذلك تفسيرا لكلامه الأول وقال سفيان بن عيينة : «أنزل فيه القرآن» ، معناه : أنزل ، في فضله القرآن (٢) ، وهذا اختيار الحسين بن الفضل ؛ قال : وهذا كما يقال : «أنزل في الصّدّيق كذا آية» يريدون في فضله (٣).
قال ابن الأنباريّ : أنزل في إيجاب صومه على الخلق القرآن الكريم ؛ كما يقال أنزل الله في الزّكاة آية كذا ؛ يريدون في إيجابها وأنزل في الخمر ، يريدون في تحريمها.
فصل
قد تقدّم في قوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا) [البقرة : ٢٣] أنّ التنزيل مختصّ بالنّزول على سبيل التّدريج ، والإنزال مختص بما يكون النزول فيه دفعة واحدة ولهذا قال تبارك وتعالى : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) [آل عمران : ٣] إذا ثبت هذا ، فنقول : لمّا كان المراد هاهنا من قوله (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) إنزاله من اللوح المحفوظ إلى سماء الدّنيا ـ لا جرم ذكره بلفظ «الإنزال» دون «التّنزيل» ، وهذا يدلّ على أن هذا القول راجح على سائر الأقوال.
قوله : «هدى» في محلّ نصب على الحال من القرآن ، والعامل فيه «أنزل» وهدى مصدر ، فإمّا أن يكون على حذف مضاف ، أي : ذا هدى ، أو على وقوعه موقع اسم الفاعل ، أي : هاديا ، أو على جعله نفس الهدى مبالغة.
قوله : «للنّاس» يحوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلق ب «هدى» على قولنا بأنه وقع موقع «هاد» ، أي : هاديا للناس.
والثاني : أن يتعلّق بمحذوف ؛ لأنه صفة للنكرة قبله ، ويكون محلّه النّصب على
__________________
(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٧٣.
(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٧٣.
(٣) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٧٣.