وقال ابن زيد : إنّ كلّ واحد منهما يستر صاحبه عند الجماع عن أبصار النّاس.
وقال أبو عبيدة وغيره : يقال للمرأة : هي لباسك وفراشك وإزارك ، وقيل : اللّباس اسم لما يواري الشّيء ، فيجوز أن يكون كلّ واحد منهما سترا لصاحبه عمّا لا يحلّ ؛ كما ورد في الحديث : «من تزوّج فقد ستر ثلثي دينه».
الثاني : أن كلّ واحد منهما يخصّ نفسه بالآخر ؛ كما يخصّ لباسه بنصيبه.
قال الواحديّ (١) ـ رحمهالله ـ : إنما وحّد «اللّباس» بعد قوله تعالى : «هنّ» ؛ لأنه يجري مجرى المصدر ، و «فعال» من مصادر «فاعل» ، وتأويله : وهنّ ملابسات لكم.
فصل في معنى (تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ)
قال القرطبيّ (٢) : معنى (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) أي : يستأمر بعضكم بعضا في مواقعة المحظور من الجماع والأكل بعد النّوم في ليالي الصّوم ؛ كقوله تعالى : (تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٨٥] أي : يقتل بعضكم بعضا ، ويحتمل أن يريد به كلّ واحد منهم في نفسه ؛ بأنه يخونها وسمّاه خائنا لنفسه من حيث كان ضرره عائدا عليه ؛ كما تقدّم.
فصل
قال ابن الخطيب (٣) : إنّه تعالى ذكر هاهنا أنّهم كانوا يختانون أنفسهم ، ولم يبيّن تلك الخيانة فيماذا ، فلا بدّ من حملها على شيء له تعلّق بما تقدّم وما تأخّر ، والذي تقدّم هو ذكر الجماع ، والذي تأخّر هو قوله تعالى : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ) فيجب أن يكون المراد بهذه الخيانة الجماع وهاهنا قولان :
الأول : علم الله أنّكم كنتم تستترون بالمعصية بالجماع بعد العتمة ، والأكل بعد النّوم ، وترتكبون المحرّم من ذلك وكلّ من عصى الله ، فقد خان نفسه ؛ وعلى هذا القول : يجب أن يقطع بأنّ ذلك وقع من بعضهم ؛ فدلّ على تحريم سابق ، لأنّه لا يمكن حمله على وقوعه من جميعهم للعادة والإخبار ، وإذا صحّ وقوعه من بعضهم ، دلّ على تحريم سابق ، ولأبي مسلم أن يقول : قد بيّنّا أنّ الخيانة عبارة عن عدم الوفاء بما يجب عليهم ، فأنتم حملتموه على عدم الوفاء بما هو أحقّ بطاعة الله ، ونحن حملناه على عدم الوفاء بما هو حقّ للنفس ، وهذا أولى ؛ لأنّ الله تعالى لم يقل : علمك [الله] أنّكم كنتم تختانونه [أنفسكم] ، وإنما قال : تختانون أنفسكم ، وكان حمل اللفظ على ما ذكرنا ، إن لم يكن أولى ، فلا أقلّ من التساوي ، وبهذا التقدير : لا يثبت النّسخ (٤).
__________________
(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٩١.
(٢) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٢١٢.
(٣) ينظر : تفسير الفخر ٥ / ٩١.
(٤) ينظر : تفسير الفخر ٥ / ٩١.