القول الثاني : أنّ المراد (عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) لو دامت تلك الحرمة ، فمعناه : أنّ الله يعلم أنّه لو دام ذلك التكليف الشّاقّ ، لوقعوا في الخيانة ، وعلى هذا التقدير : ما وقعت الخيانة ، فيمكن أن يقال : التفسير الأوّل أولى ؛ لأنّ لا حاجة فيه إلى إضمار الشّرط ، وأن يقال : بل الثاني أولى ؛ لأنّه على الأوّل يصير إقدامهم على المعصية سببا لنسخ التكليف ، وعلى الثاني : علم الله أنه لو دام ذلك التكليف ، لحصلت الخيانة ، فنسخ التكليف رحمة من الله على عباده ، حتى لا يقعوا في الخيانة.
وأمّا قوله تعالى (فَتابَ عَلَيْكُمْ) فمعناه على قول أبي مسلم (١) : فرجع عليكم بالإذن في هذا الفعل والتّوسعة عليكم ، وعلى قول مثبتي النّسخ لا بدّ فيه من إضمار ، تقديره : تبتم ، فتاب عليكم ، وقوله (وَعَفا عَنْكُمْ) على قول أبي مسلم (٢) : أوسع عليكم بإباحة الأكل والشّرب والمباشرة في طول اللّيل ، ولفظ «العفو» يستعمل في التوسعة والتخفيف ؛ كما قدّمناه ، وعلى قول مثبتي النّسخ ، لا بد وأن يكون تقديره : عفا عن ذنوبكم ، وهذا مما يقوّي قول أبي مسلم ؛ لأن تفسيره لا يحتاج إلى إضمار ، وتفسير مثبتي النّسخ يحتاج إلى إضمار وتفسير.
قوله : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ) قد تقدّم الكلام على «الآن» وفي وقوعه ظرفا للأمر تأويل ، وذلك أنه للزمن الحاضر ، والأمر مستقبل أبدا ، وتأويله ما قاله أبو البقاء (٣) ؛ قال : «والآن : حقيقته الوقت الذي أنت فيه ، وقد يقع على الماضي القريب منك ، وعلى المستقبل القريب ، تنزيلا للقريب منزلة الحاضر ، وهو المراد هنا ، لأنّ قوله : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ) ، أي : فالوقت الذي كان يحرّم عليكم فيه الجماع من اللّيل» ، وقيل : هذا كلام محمول على معناه ، والتقدير : فالآن قد أبحنا لكم مباشرتهنّ ، ودلّ على هذا المحذوف لفظ الأمر ، فالآن على حقيقته. وسمّي الوقاع مباشرة ، لتلاصق البشرتين فيه :
قال ابن العربيّ (٤) : وهذا يدلّ على أنّ سبب الآية جماع عمر ، لا جوع قيس ، لأنه لو كان السّبب جوع قيس ، لقال : «فالآن كلوا» ابتداء به ؛ لأنه المهمّ الذي نزلت الآية لأجله.
وقرأ (٥) ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ : «واتّبعوا» من «الاتّباع» وتروى عن معاوية بن قرة والحسن البصريّ ، وفسّروا (ما كَتَبَ اللهُ) بليلة القدر ، أي : اتّبعوا ثوابها ، قال الزمخشريّ : «وهو قريب من بدع التّفاسير».
وقرأ الأعمش «وابغوا».
__________________
(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٩٢.
(٢) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٩٢.
(٣) ينظر : الإملاء ١ / ٨٣.
(٤) ينظر : تفسير القرطبي ٢ / ٢١٢.
(٥) انظر : المحرر الوجيز ١ / ٢٥٨ ، والبحر المحيط ٢ / ٥٧ ، والدر المصون ١ / ٤٧٥.