فصل في صوم الجنب
مذهب أبي هريرة والحسن بن صالح ؛ أنّ الجنب إذا أصبح قبل الاغتسال ، لم يكن له صوم (١) ، وهذه الآية تبطل قولهم ؛ لأنّ المباشرة ، إذا أبيحت إلى انفجار الصّبح ، لم يمكنه الاغتسال إلّا بعد الصّبح.
ويؤيّده ما ورد عنه صلىاللهعليهوسلم ، أنه كان يدركه الفجر ، وهو جنب من أهله ، ثم يغتسل ويصوم (٢) ، والله أعلم.
فصل
زعم الأعمش أنه يحل الأكل والشّرب والجماع بعد الفجر ، وقبل طلوع الشمس ؛ قياسا لأوّل النهار على آخره ؛ فكما أن آخره بغروب الشّمس ، وجب أن يكون أوله بطلوع الشّمس ، قال : إن المراد بالخيط الأبيض ، والخيط الأسود في الآية الكريمة هو اللّيل والنّهار ، قال : ووجه التشبيه ليس إلّا في البياض والسّواد ؛ لأن ظلمة الأفق حال طلوع
__________________
(١) ويندب للصائم أن يغتسل عن حدث أكبر ليلا ، ليكون على طهر من أول الصّوم ، فيؤدي العبادة على طهارة ، ويندب له إن لم يغتسل أن يغسل ما يخشى وصول الماء منه إلى الجوف ؛ كالأذن والدبر.
وإنما كان الغسل من الحدث الأكبر ليلا مندوبا لا واجبا ؛ لما روي عن السيدة «عائشة» و «أم سلمة» ـ رضي الله عنهما ـ ؛ أن النبي صلىاللهعليهوسلم ـ «كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام ، ثمّ يصوم في رمضان».
ولما روي عن السيدة «عائشة» أيضا ؛ أنّ رجلا قال : يا رسول الله ، تدركني الصّلاة وأنا جنب ، أفأصوم ، فقال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وأنا تدركني الصّلاة وأنا جنب ، وأصوم.
وأما ما روي عن «أبي هريرة» ـ رضي الله عنه ـ ؛ أن النبي ـ صلىاللهعليهوسلم ـ قال : «من أصبح جنبا ، فلا صيام له» ، فقيل : إنه ضعيف ، وقيل : هو محمول على من أصبح مجامعا واستدام الجماع إلى ما بعد طلوع الفجر.
وقال «ابن المنذر» : أحسن ما سمعت في حديث «أبي هريرة» ـ أنه منسوخ ؛ لأن الجماع كان محرما في صدر الإسلام على الصائم بعد النّوم في الليل ؛ كالطعام والشراب ، فلما أباح الله الجماع إلى طلوع الفجر ، جاز للجنب الصوم ، إذا أصبح قبل الغسل.
ويؤيّد كلام ابن المنذر قول الله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ).
والرّفث : الجماع ، وقد أحلّه الله ـ تعالى ـ في جميع اللّيل ، ولو في اللّحظة الأخيرة قبل طلوع الفجر ، وهذا يقتضي أن يصبح فاعل ذلك جنبا ، ولا يبطل صومه ، لأنه لو كان يبطل به صومه ، لما أحلّه الله.
ويؤيد دعوى النسح : رجوع «أبي هريرة» عن الفتوى بذلك ؛ كما في رواية «البخاري» : أنه لمّا أخبر بما قالته السّيدة عائشة وأمّ سلمة في الحديث السّابق ، قال : هما أعلم برسول الله ، ـ صلىاللهعليهوسلم ـ.
وقد نقل «النووي» الجمع بين ما قالته السيدة «عائشة» و «أم سلمة» ، وما رواه أبو هريرة ؛ بأنّ ما رواه أبو هريرة محمول على الأفضل ، وما روت السيدة عائشة و «أم سلمة» محمول على بيان الجواز.
(٢) أخرجه البخاري (٣ / ٧١) كتاب الصوم باب اغتسال الصائم (١٩٣٠) ومسلم «كتاب الصيام» باب ١٣ رقم (٧٦) والترمذي (٧٧٩) وأحمد (٦ / ٣٨) ، (٦ / ٣٠٨ ، ٣١٣) والبيهقي (٤ / ٢١٤) والحميدي (١٩٩) وعبد الرزاق (٧٣٩٧) وابن أبي شيبة (٣ / ٨١) والطحاوي في «شرح معاني الآثار» (٢ / ١٠٤) وفي «مشكل الآثار» (١ / ٢٢٩).