ضدّه ، فبهذا الاعتبار كانت عدّة مناه ، ثم جاء آخرها صريح النهي ، وهو : «ولا تباشروهنّ» فأطلق على الكل «حدودا» ؛ تغليبا للمنطوق به ، واعتبارا بتلك المناهي الّتي تضمّنتها الأوامر ، فقيل فيها حدود ، وإنما اضطررنا إلى هذا التأويل ؛ لأنّ المأمور به لا يقال فيه «فلا تقربوها».
وقال أبو مسلم الأصفهانيّ (١) : «لا تقربوها» أي : لا تتعرّضوا لها بالتغيير ؛ لقوله تعالى: (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الإسراء : ٣٤].
قال أبو البقاء (٢) : دخول الفاء هنا عاطفة على شيء محذوف ، تقديره : «تنبّهوا فلا تقربوها» ، ولا يجوز في هذه الفاء أن تكون زائدة كالتي في قوله تعالى : (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [البقرة : ٤٠] على أحد القولين ؛ لأنه كان ينبغي أن ينتصب «حدود الله» على الاشتغال ؛ لأنه الفصيح فيما وقع قبل أمر أو نهي ، نحو : «زيدا فاضربه ، وعمرا فلا تهنه» فلمّا أجمعت القرّاء هنا على الرفع ، علمنا أن هذه الجملة التي هي «فلا تقربوها» منقطعة عمّا قبلها ، وإلا يلزم وجود غير الفصيح في القرآن.
والحدود : جمع حدّ ، وهو المنع ، ومنه قيل للبوّاب : حدّاد ، لأنّه يمنع من العبور قال اللّيث ـ رحمهالله تعالى ـ : وحدّ الشيء منتهاه ومنقطعه ، ولهذا يقال : الحدّ مانع جامع ، أي : يمنع غير المحدود الدّخول في المحدود.
وقال الأزهريّ : ومنه يقال للمحروم ، محدود ؛ لأنّه ممنوع عن الرّزق ، وحدود الله ما يمنع مخالفتها ، وسمّي الحديد حديدا ؛ لما فيه من المنع ، وكذلك : إحداد المرأة ؛ لأنّها تمتنع من الزينة.
والنّهيّ عن القربان أبلغ من النّهي عن الالتباس بالشيء ؛ فلذلك جاءت الآية الكريمة.
وقال هنا : (فَلا تَقْرَبُوها) وفي مواضع أخر : (فَلا تَعْتَدُوها) [البقرة : ٢٢٩] ومثله (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ) [البقرة : ٢٢٩] (وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ) [النساء : ١٤] لأنه غلّب هنا جهة النهي ؛ إذ هو المعقّب بقوله : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) وما كان منهيّا عن فعله ، كان النهيّ عن قربانه أبلغ ، وأمّا الآيات الأخر ، فجاء (فَلا تَعْتَدُوها) عقيب بيان أحكام ذكرت قبل ؛ كالطلاق ، والعدّة ، والإيلاء ، والحيض ، والمواريث ؛ فناسب أن ينهى عن التعدّي فيها ، وهو مجاوزة الحدّ الذي حدّه الله تعالى فيها.
قال السّدّيّ : المراد بحدود الله شروط الله (٣) وقال شهر بن حوشب : فرائض الله (٤).
__________________
(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ٥ / ٩٩.
(٢) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٨٣.
(٣) أخرجه الطبري في «تفسيره» (٣ / ٥٤٧) عن السدي.
(٤) ينظر : تفسير البغوي ١ / ١٥٩.