والثاني : أنه منصوب على الصّرف ، وقد تقدّم معنى ذلك ، وأنه مذهب الكوفيّين ، وأنه لم يثبت بدليل.
والثالث : أنه منصوب بإضمار «أن» في جواب النهي ، وهذا مذهب الأخفش (١) ، وجوّزه ابن عطيّة والزّمخشريّ ، ومكّيّ ، وأبو البقاء (٢) ، قال أبو حيّان : «وأمّا إعراب الأخفش ، وتجويز الزمخشريّ ذلك هنا ، فتلك مسألة : «لا تأكل السّمك ، وتشرب اللّبن» قال النحويّون : إذا نصب ، كان الكلام نهيا عن الجمع بينهما ، وهذا المعنى : لا يصحّ في الآية لوجهين :
أحدهما : أنّ النهي عن الجمع لا يستلزم النّهي عن كلّ واحد منهما على انفراده ، والنّهي عن كلّ واحد منهما يستلزم النّهي عن الجمع بينهما ؛ لأن الجمع بينهما حصول كلّ واحد منهما ، وكلّ واحد منهما منهيّ عنه ضرورة ؛ إلا ترى أنّ أكل المال بالباطل حرام ، سواء أفرد أم جمع مع غيره من المحرّمات؟
والثاني ـ وهو أقوى ـ : أنّ قوله «لتأكلوا» علّة لما قبلها ، فلو كان النهي عن الجمع ، لم تصحّ العلّة له ؛ لأنّه مركّب من شيئين ، لا تصحّ العلّة أن تترتّب على وجودهما ، بل إنما تترتّب على وجود أحدهما ، وهو الإدلاء بالأموال إلى الحكام».
والإدلاء مأخوذ من إدلاء الدّلو ، وهو إرساله إلى البئر ؛ للاستقاء ؛ يقال : «أدلى دلوه» إذا أرسلها ، ودلاها : إذا أخرجها ، ثم جعل كلّ إلقاء قول أو فعل إدلاء ؛ ومنه يقال للمحتجّ أدلى بحجّته ، كأنه يرسلها ، ليصل إلى مراده ؛ كإدلاء المستقي الدلو ؛ ليصل إلى مطلوبه من الماء ، وفلان يدلي إلى الميّت بقرابة ، أو رحم ؛ إذا كان منتسبا ، فيطلب الميراث بتلك النّسبة.
و «بها» متعلّق ب «تدلوا» وفي الباء قولان :
أحدهما : أنها للتعدية ، أي لترسلوا بها إلى الحكّام.
والثاني : أنّها للسبب ؛ بمعنى أن المراد بالإدلاء الإسراع بالخصومة في الأموال ؛ إمّا لعدم بيّنة عليها ، أو بكونها أمانة ؛ كمال الأيتام ، والضمير في «بها» : الظاهر أنه للأموال ، وقيل : إنه لشهادة الزّور ؛ لدلالة السّياق عليها ، وليس بشيء.
و «من أموال» في محلّ نصب صفة ل «فريقا» أي : فريقا كائنا من أموال النّاس.
قوله : «بالإثم» تحتمل هذه الباء : أن تكون للسّبب ، فتتعلّق بقوله : «لتأكلوا» وأن تكون للمصاحبة ، فتكون حالا من الفاعل في «لتأكلوا» وتتعلق بمحذوف أي : لتأكلوا ملتبسين بالإثم.
__________________
(١) ينظر : معاني القرآن للأخفش ١ / ١٦٠.
(٢) ينظر : الإملاء لأبي البقاء ١ / ٨٤.