فقد روي أنه ـ عليهالسلام ـ كان إذا صلّى ب «مكة» جعل الكعبة بينه وبين «بيت المقدس» ، وهذه صلاة إلى الكعبة ، فلما هاجر لم يعلم أين يتوجه ، فانتظر أمر الله ـ تعالى ـ حتى نزل قوله : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).
فصل
اختلفوا في صلاته إلى بيت المقدس ، فقال قوم : كان ب «مكة» يصلي إلى الكعبة (١) فلما صار إلى المدينة أمر بالتوجه [إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرا.
وقال قوم : بل كان ب «مكة» يصلي إلى بيت المقدس ، إلا أنه يجعل الكعبة بينه وبينها.
وقال قوم : بل كان يصلي إلى بيت المقدس فقط وب «المدينة» أولا سبعة عشر شهرا ، ثم أمره الله تعالى بالتوجه إلى الكعبة لما فيه من الصلاح.
واختلفوا في توجه النبي صلىاللهعليهوسلم](٢) إلى بيت المقدس هل كان فرضا لا يجوز غيره ، أو كان مخيرا في التوجه إليه وإلى غيره ، فقال الربيع بن أنس : قد كان مخيرا في ذلك. وقال ابن عباس : كان التوجه إليه فرضا.
وعلى كلا الوجهين صار منسوخا ، واحتج الأولون بالقرآن والخبر.
أما القرآن فقوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة : ١١٥].
وذلك يقتضي كونه مخيرا في التوجه إلى أي جهة شاء.
وأما الخبر فما روى أبو بكر الرّازي في كتاب «أحكام القرآن» : أن نفرا قصدوا الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ من «المدينة» إلى «مكة» للبيعة قبل الهجرة ، وكان فيهم البراء بن معرور ، فتوجّه بصلاته إلى الكعبة في طريقه ، وأبى الآخرون ، وقالوا : إنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ يتوجّه إلى بيت المقدس ، فلما قدموا «مكة» سألوا النبي صلىاللهعليهوسلم ، فقال له : قد كنت على قبلة يعني بيت المقدس لو ثبتّ عليها أجزأك ، ولم يأمره باستئناف الصلاة ، فدلّ على أنهم قد كانوا مخيرين.
واحتجّ الذاهبون إلى القول الثّاني بأنه ـ تعالى ـ قال : (فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها) فدلّ على أنه ـ عليهالسلام ـ ما كان يرتضي القبلة الأولى ، فلو كان مخيرا بينها وبين الكعبة ما كان يتوجّه إليها ، فحيث توجّه إليها مع أنه كان ما يرتضيها علمنا أنه ما كان مخيرا بينها وبين الكعبة.
فصل في نسخ التوجه إلى بيت المقدس
المشهور أن التوجّه إلى «بيت المقدس» إنما صار منسوخا [بالأمر بالتوجّه إلى الكعبة.
__________________
(١) تقدم نحو من هذا الكلام.
(٢) سقط في أ.